تلقيت بسُرور عظيم خبر تعيين المُكرّم السّيد محمّد بن زيان الصّمغوني أميرا لبلد أبي صمغُون وتكلّل مساعي أصدقائنا الصّمغونيين بالنّجاح , الصّداقة القديمة التّي بيني وبين أهل هذا البيت الكريم وقد اشتمل هذا النّبأ على شيء آخر كان فرحي به أعظم وجذلي به أتمّ ألا وهو كون الصّديق الكريم الحميم السّيد الطّاهر بن زيان رُكنا من أركان الإصلاح في ذلك البلد فقد كان هذا الأخ الكريم من خالص أحبابي في زمان الانحراف عن المحجّة البيضاء وأظنّ أنّي بعد ما اهتديت إلى توحيد ربّ العالمين واتّباع حُجّة الله على العالمين محمّد خاتم النّبيين صلوات الله وسلامه عليه كتبت إلى جميع أصدقائي في تلك النّواحي ومنهم السّيد الطّاهر ونصحت لهم بالرّجوع إلى الجادّة وبلغني أنّ كثيرا منهم سبّوني وشتموني ولم آسف لذلك وإنّما أسفت لبقائهم محرومين من بركة ونعمة اتّباع الرّسول والسّلف الصّالح فلمّا جاءني البشير بأنّ السّيد المذكور تخلّص ممّا كان فيه حمدت الله على ذلك فعسى أن يكون صحيحا وعسى أنّ كثيرا من أصدقائي هُناك أتحفوا بهذه النّعمة الكبرى :
على نفسه فليبك من ضاع عُمره *** وليس له منها نصيب ولا سهم
نسأل الله أن يجمع كلمة إخواننا أهل المغرب على الهُدى ويُؤيّد بهم الإسلام كما صنع بأسلافهم إنّه على ذلك قدير , تحيّة ودعوة من الشّمال الشّرقي في الهند إلى المغرب , وربّنا أكرم من أن يرُدّها .
محمّد تقيّ الدّين الهلالي
]]>هذه فقرة من كلام سيّد المُرسلين طالما تكرّرت على الألسنة كضرب مثل يَرمي إلى أن يُجعل المُؤمن في مُعتزل عن أبناء دينه وأمّته خلاف حكمة الباري تعالى خلقه وخلاف تعاليم الشّرائع السّماويّة ولقد استطاعت الدّسائس أن تجعل العامّة وكثيرا من الخاصّة تحفظُها وتفهم لها معنى لم يُرده الله ورسوله وأراده أعداء المُسلمين .
نعم لم يُرده الله تعالى ورسوله لأنّ الشريعة الإسلاميّة اعتبرت المُسلمين كجسد واحد إذا اشتكى عُضو منه تداعى له سائر الجسد بالحُمّى والسّهر , غير أنّه مهما بلغت أمّة من كمال الصّلاح والتّقى فلا بدّ من وُجود أشرار فيها مُذبذبين يحيدون عن سبيل الصّواب ويسلكون طريق الغواية فكان حديث ( عليك بخُويصة نفسك ) تسلية لصالحي المؤمنين بأنّه لا يضرّهم من ضلّ من المسلمين ولم يقبل سلوك طريقهم إذا اهتدوا وساروا على جادّة الحقّ والهدى , لكن لا يخفى أنّ الهداية هي قبول الدّين الإسلاميّ بكلّ ما جاء به ثابتا عن الله ورسوله وإنّ ممّا جاء في الشّريعة المُطهّرة بل هو رُكنها الوطيد الأمر بالمعروف والنّهي عن المُنكر اللّذين أصاب العرب والإسلام ما أصابهما لم يكن إلاّ بسبب تركهم لهما فقد روى الطّبرانيّ في الأوسط عن أبي هُريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : ( لتأمرنّ بالمعروف ولتنهونّ عن المنكر أو ليُسلّطنّ الله عليكم شراركم فيدعو خياركم فلا يُستجاب لهم ) وروى أبو داود في سُننه عن ابن مسعود رضي الله عنه أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال : ( إنّ أول ما دخل النّقص في بني إسرائيل أنّه كان الرّجل يلقى الرّجل فيقول : يا هذا اتّق الله ودع ما تصنع فإنّه لا يحلّ لك ثمّ يلقاه من الغد وهو على حاله فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده فكما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ثمّ قرأ (<< لعن الله الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داوود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ــ ــ كانوا لا يتناهون عن مُنكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون ــ ــ ترى كثيرا منهم يتولّون الذين كفروا لبئس ما قدّمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون ــ ــ ولو كانوا يُؤمنون بالله والنّبيء وما أنزل إليه ما اتّخذوهم أولياء ولكنّ كثيرا منهم فاسقون >>) ثمّ قال : ( كلاّ والله , لتأمرُنّ بالمعروف ولتنهوُنّ عن المُنكر ولتأخُذنّ على يد الظّالم ولتأطرنّه على الحقّ أطرا ) أي تقهرونه وتلزمونه على الحقّ قهرا . وكيف يتخلّى المُسلمون عن الأمر بالمعروف والنّهي عن المُنكر وهم في سفينة الحياة سائرون لو أطلقوا العنان لأدوات الفساد لهلك الجميع غرقى وذلك هو المثل الذي رواه البُخاريّ في صحيحه عن النّعمان بن بشير عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال : ( مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهمّوا على سفينة فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مرّوا على من فوقهم فقالوا لو أنّا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نُؤذ من فوقنا ؟ فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا , وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا ) على أنّ الشّريعة الإسلاميّة لاحظت الأيدي التّي ستعبث في الإسلام باسم الدّين فحالت دون ذلك , لو أنّ المسلمين التفتوا قليلا إلى السّنّة النّبوية التّي هي تفسير للقرآن ولاحظوا ما تشتمل عليه آيات الفرقان من الحُكم والدّقائق . روى التّرمذي وأبو داود والنّسائي وابن ماجه في سُننهم وابن حبّان في صحيحه عن أبي بكر رضي الله عنه أنّه قال : يا أيّها النّاس إنّكم تقرؤون هذه الآية (<< يأيّها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضرّكم من ضلّ إذ اهتديتم >>) وإنّي سمعت رسول الله يقول : ( إنّ النّاس إذا رأوا الظّالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمّهم الله بعقاب من عنده ) .
فمن هذا تعلم أنّ حديث ( عليك بخُويصة نفسك ) وآية ( عليكم أنفسكم ) قد أخرجوهما عن المُراد للشّارع وجعلوهما ألسنة لإفساد الأمّة وإيجاد الوهن في عزيمتها حتّى نهجت الأمّة خُطّة الفرق والجُبن التي أورثتها الذل والجهل والانحطاط بعد أن كانت الآية الكريمة نزلت للقوّة و . . . و . . . على أنّ كثيرا من عُلماء الإصلاح وخُصوصا الأستاذ الطّيب العُقبي جزاه الله عن الإسلام والمُسلمين خيرا قد نبّهوا على خطأ فهم النّاس لهما وأنّهم شوّهوا معناهما ودُونك نصّ عبارة النّووي في شرح مُسلم تفسيرا للآية , قال : << لأنّ المذهب الصّحيح عند المُحقّقين في معنى الآية أنّكم إذا فعلتم ما كُلّفتم به فلا يضرّكم تقصير غيركم مثل قوله تعالى : (<< ولا تزر وازرة وزر أخرى >>) وإذا كان كذلك فممّا كُلّف به الأمر بالمعروف والنّهي عن المُنكر إذا فعله ولم يمتثله المُخاطب فلا عتب بعد ذلك على الفاعل لكونه أدّى ما عليه فإنّ عليه الأمر والنّهي لا القبول والله أعلم >> ا هـ . فالدّعوة إلى الانفراد وعيش العزلة وعمل المسلمين اليوم بهذا هو الذي أقعدهم عن الأعمال المجيدة وأفقدهم ثمرات الحياة التّي يتطلّب قطفها تأسيس جماعات وتوحيد قِوى كثيرة لأنّ الأعمال الجسيمة لا يُمكن للفرد الواحد من البشر أن يقوم بها وحده مهما كان قويّا . وقد بلغ من تغلغل هذا المثل في نُفوسنا ومشاعرنا أن أصبح دُستورا لمُعظم أعمالنا الاجتماعيّة مع أنّه القاصم المُهلك ولهذا تجد المشاريع الخيريّة عندنا مفقودة وإن وُجدت لا تنجح لأنّ كلّ فرد منّا نسي كلمة ( مصلحة الأمّة ) و ( واجب الوطن ) و ( فرض الدّين ) ولكنّه حفظ كلمة ( عليك بخُويصة نفسك ) التّي فهمها على غير وجهها وردّدها كثيرا حتّى امتزجت بدمه واختلطت بعظمه ولحمه . كثيرا ما تجد النّاس يتساءلون لم لا تُؤسّس الجمعيّات عندنا وإن قُمنا بجمعيّة ولو صغيرة فإنّ النّجاح لا يُوافقها , فكأنّهم لا يعملون ولا يشعرون , فالجواب هو كلمة ( عليك بخُويصة نفسك ) التّي تُكرّرونها في غير محلّها فصرفتكم عن المصالح العامّة وأورثت فسادا في الأخلاق وطمعا أخلّ بالنّظام الاجتماعي لعدم ائتلافه بسببها مع العدل وحُقوق الأمّة . لا شكّ أنّه لا يُمكننا القيام بالمشاريع الخيريّة إلاّ بعد التّحقق بآية (<< إنّما المُؤمنون إخوة >>) وبالحديث الذي رواه الإمام أحمد في مُسنده ومُسلم في صحيحه عن النّعمان بن بشير رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ( المُؤمنون كرجل واحد , إذا اشتكى رأسه اشتكى كلّه وإذا اشتكى عينُه اشتكى كلّه ) والذي رواه البُخاري في صحيحه أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال : ( المُؤمن للمُؤمن كالبُنيان يشُدّ بعضه بعضا ) ثمّ شبّك بين أصابعه , ومن قواعد الدّيانة الإسلاميّة أنّه يجب على المُؤمن أن يعدّ منفعة أخيه المُؤمن منفعة لنفسه ويعتقد أنّ المال الذي بيده هو مال المُسلمين جميعا وإن كان تحت تصرّفه وإرادته .
ألا ترى أنّ الصّبيّ أو الرّجل المُبذر السّفيه يُحجر عليه , ولماذا ؟ لأنّه يُضيّع مالا يحقّ لأمّته أن تستفيد منه عند الحاجة , قال تعالى : (<< ولا تُؤتوا السّفهاء أموالكم التّي جعل الله لكم قياما >>) فأضاف تعالى مال السّفيه للمُسلمين باعتبار أنّهم جسد واحد . فإذا لا نجاح للمُسلمين إن لم يعتبر كلّ واحد منّا منفعة أمّته منفعة له وهذه خُطّة المُسلمين في صدر الإسلام ولكن دسيسة تشويه ( عليك بخُويصة نفسك ) وأمثالها فرّقت المُسلمين أحزابا وشيعا وجعلت كلّ فرد منهم مُعرضا عن المصلحة العامّة ولا يُفكّر إلاّ في نفسه ومطامعه الذاتية ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله .
الجزائر , بوزيدي الحسن بن بلقاسم .
]]>القوم أربعة : قوم عرفوا الحق فأظهروه وهم المؤمنون المُتّقون الذين يرجون رحمة ربّهم ويخافون عذابه . وقوم عرفوا الحقّ فأنكروه وهم الجاحدون العاطلون والأعداء الذين لا يرضى عنهم الله ولا يفرحون . وقوم ما عرفوا الحق فأنكروه ولا عرفوا الباطل فأيّدوه فهؤلاء قوم جاهلون وناسٌ غافلون تقودهم الأيدي وتُسخّرهم العقول مرّة لخير وأخرى لشرّ وتارة لمعروف وطورا لمُنكر وهم قوّة الحق إذا ظهرت رجاله , وحُماة الباطل إذا حضرت أبطاله . وقوم عرفوا الحق وعرفوا الباطل وعرفوا مصدر كلّ واحد منهما وأدركوا عاقبة المُحق وعاقبة المُبطل فكان ممّا أدركوه أنّ عاقبة الأوّل الثّواب وعاقبة الآخر العقاب ! وإنّ ممّا كتب الله للمُحقّين الفوز والانتصار وممّا كتبه للمُبطلين الخيبة والاندحار .
هذا هو علمهم بالوجهين ــ وجه الحقّ ووجه الباطل ــ ومُنتهى الإدراك منهم لعقبى الطّائفتين ــ طائفة المُحقّين وطائفة المُبطلين ــ , فهل كانوا للحقّ فأيّدوه , وعلى الباطل فخذلوه ؟ . . . لا . . . إذن كانوا للباطل على الحقّ . . . لا . . . وكيف كانوا ؟ كانوا على حال لا يرضاها عقل ولا يُقرّها شرع وهي ما أسمَوهُ << البقاء على الحياد >> . فما معنى البقاء على الحياد ؟ معناه أن لا تمدّ يدك للحقّ فتنفعه , ولا تُسلّطها على الباطل فترفعه وإن شئت قلت هو خُذلان للحقّ ورضيٌ بالباطل ! أو قُل هو السّكوت المُطلق والكفّ الشّامل عن قول وفعل الخير والشّرّ .
ومن أسباب << البقاء على الحياد >> ضعف نفس صاحبه وقلّة ثقته بالله ومنها تذبذبُه ونفاقه وعدم ثباته على حال :
وإنّ الذي لا يستقرّ قراره *** على حالة لا يستقلّ بآت
ومن أسبابه مُهاواة النّاس ومُجاراتهم ( في عوائدهم وديانتهم وأفراحهم وأتراحهم واحتفالاتهم ومآتمهم ) خوفا من ذهاب دُنيا فانيّة أو جاه كاذب أو طمعا في إقبالهما من جهة ذهابهما التّي هي غضب ( سيّدي الشّيخ ) وفُقراء الشّيخ وزيد وعمرو وخالد وبكر , فلا يُعاملون من لا يُهاويهم ولا يسكت عن مناكرهم ولا يدعونه لولائمهم ومآتمهم ولا يُصدّرون به مجلسا ولا يعرفون له قيمة ولا خاطرا وهذا شيء يهمّ بعض الأعيان أكثر وبعض العلماء أكثر ولأجله فضّلوا الحياد . وما دخل هذا الخوف على هذا البعض من العلماء والأعيان المُحايدين إلاّ من طريق الوهم والخيال وقلّة الثّقة بالله ثمّ بأنفسهم ! وإلاّ فقد عرفنا كثيرا من النّاس قاموا بالحقّ دفاعا عنه وتأييدا له ولم يُبالوا بغضب زيد ولا برضى عمرو وما زادهم ذلك إلاّ إكبارا في النّفوس وإعظاما في القلوب , وتصدّعت بقوّة قلوبهم قلوب الجاحدين , وذلّت لعزّة نُفوسهم نُفوس المُبطلين , وما أعزّت مُبطلا كثرته ولا أغنت عن جاحد آلهته . . .
ورأينا من المُحايدين أكثر من أن نُحصي كيف أصبحوا بعد انتصار الحقّ ــ ولا بدّ من انتصاره ــ لا يُقام لهم وزن ولا يُعرف لهم شأن ولا يعتبرون إلاّ كصخور على ضفّتي واد تُشينُه ولا تُزينُه فلمّا سالت الأباطح والشّعاب وغمرت الوادي المياه جرفتها فيما جرفت فذهبت إلى حيث لا يشهدها عيان ولا يذكُرها لسان ولا يتأسّف عليها إنسان . . . ونبت في مكانها من الضّفتين العشب والأشجار ذات الأزهار والثمار فتمتّع النّاس بريحها باللّيل وتفيء ظلها بالنّهار .
ذلك مثل القوم المُحايدين الذين لا ينفعون ولا ينتفعون ومثل القوم العاملين الذين يُفيدون ويستفيدون . . .
تلك هي الأسباب الطّبيعيّة << للبقاء على الحياد >> وتلك هي صفات المُحايدين فما هي نتائجه ولوازمه ؟
فأولى نتائجه تكثير سواد المُبطلين عن غير شُعور من صاحبه , لأنّ المُبطل يَعتبر أنّ كلّ من لم يُعارضه فهو مُؤيّد له وناصر ! وأوّل كلمة يُواجه بها المحقّ : << أنت وحدك ومن دون هؤلاء تُعارضني وتُسمّي ما أقول وما أعمل باطلا ! >> ولذلك كان اشتباه العلماء الذين يُقرّون البدع والمُنكرات بسُكوتهم عنها وعن صاحبها حجّة عند العامّة العمياء والمُبطلين الأدنياء .
ومن لوازم << البقاء على الحياد >> كتمان العلم والغشّ لله ولرسوله ولأئمّة المُسلمين وعامّتهم فمن علم الحقّ ولم يُعلّمه فقد كتمه , ومن رآه في حاجة إلى النّصير ولم ينصره فقد خذله ومن علم الباطل ولم يكشفه للنّاس فقد غشّ ولم ينصح , ومن رأى الباطل شوكة ولم يكسرها أو يعمل على كسرها فقد أبقى عليه وشدّ أزره .
وما شُروط << الصّلح >> المشهورة إلاّ دعوة للبقاء على الحياد الذي يترُك النّاس على ( ديانتهم وعوائدهم ) حقّا كانت أو باطلا ! وليس من شرط في تلك الشّروط إلاّ وتحته أيدي تعضد المُنكر وتُؤازره وتُعارض المعروف وتُحاربه .
ومن لوازمه مُخالفة أمر الله ورسوله فمن أوامر الله أن تكون فينا أمّة تدعو إلى الخير وتأمر بالمعروف وتنهى عن المُنكر وهذه الأمّة لا تُحدّ بحدّ ولا تُحصر بعدّ وكما تصدق على الجماعة تصدق على الفرد , فلماذا تُخرج نفسك منها أيّها المُحايد ولا تكون ذلك الفرد ؟ ومن أوامر الله أن نستبق الخيرات بتخيير الوجهات وأيّ وجهة خير كالانتصار للحقّ ؟ فلماذا لا تستبق غيرك فيها أيّها المُحايد ؟
ومن أوامره تعالى أن نتّعظ بواحدة : أن نقوم لله مثنى وفُرادى ثمّ نتفكّر فيما أوحى الله به لرسوله وننصح لأنفسنا بالاعتراف بالحقّ والإنابة إليه وبالانتصار لدين الله وتأييده , فما قيمتك في الدّنيا وما حظّك في الآخرة أيّها المُحايد إذا لم تتّعظ بواحدة الله : أن تقوم له مع القائمين وتؤيد دينه مع المُؤيّدين ؟ وإذا كُنت أيّها المُحايد تُؤمن بقول الله (<< يُحقّ الله الحقّ ويُبطل الباطل >>) وقوله (<< إنّ الباطل كان زهوقا >>) فما معنى بقائك على الحياد وعدم إعلانك الحرب على الباطل ؟ لا يكون لحالك هذه معنى إلاّ أن تكون تخاف أن يُخلف الله وعده ويخذل جُنده , وحاشا الله !
وإذا كُنت تعلم أنّه ليس من المُسلمين من لا يهتمّ لشُؤونهم وأنّهم يدٌ على من سواهم فبماذا تُسمّي حيادك ؟ أبعدم الاهتمام بشُؤونهم أم بأنّ يدك ليست يدهم ؟ ؟ إنّ الحياد خصلة من أقبح الخصال ولا يلتجئ إليها إلاّ ضعفاء القلوب وفاتروا العزائم بل لا يلتجئ إليها إلاّ من لا إيمان في قلوبهم ولا حُجّة على ألسنتهم , فحذار أيّها المُسلم الصّادق أن تعرف الحقّ ولا تنصُره وتعرف الباطل ولا تُنكره وحذار أن تكون من غواة << البقاء على الحياد >> فإنّه خُذلان للحقّ ورضيٌ بالباطل , والله يغفر لمن يشاء ويهدي إليه من يُنيب .
مُستغانم , مُصطفى بن حلّوش .
]]>كتب معالي الأستاذ الحجوي فصلا قيّما عن الوهّابيّة والوهّابيين أردنا أن نُتحف به قرّاءنا ليطّلعوا على ما يقول العلماء الأعلام في الوهّابيّة وعلى ما يتمنّون لها من سعة الانتشار , ونحن ننشر هذا الفصل كردّ على لغط هؤلاء المشاغبين المغرضين الذين لا يزالون يرموننا بأنّنا وهّابيّة ويرمون الوهّابيّة بالكفر والمروق من الدّين . المحرّر ( ز )
قال الوزير لا فضّ فوه ؛ ولا برَّ من يجفوه : أبو عبد الله محمّد بن عبد الوهّاب التميمي النّجدي إمام الوهّابيّة والزّعيم الأكبر, ولد في مدينة العُيينة من إقليم العارض بنجد سنة 1106هجريّة , وربّي في حجر والده , ثمّ انتقل للبصرة لإتمام دروسه , فبرع في علوم الدّين واللّسان , وفاق الأقران واشتهر هنالك بالتّقوى وصدق التّديّن .
عقيدته السّنّة الخالصة على مذهب السّلف المتمسّكين بمحض القرآن والسّنّة , لا يخوض التّأويل والفلسفة , ولا يدخلهما في عقيدته , وفي الفروع مذهبه حنبلي غير جامد على تقليد الإمام أحمد ولا من دونه , بل إذا وجد دليلا أخذ به وترك أقوال المذهب , فهو مستقلّ الفكر في العقيدة والفروع معا , كان قويّ الحال ذا نفوذ شخصي , وتأثير نفسي على أتباعه يتفانون في امتثال أوامره , غير هيّاب ولا وجل لذلك كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر , ـــــــــــــــــــ عن عشيرته بالبصرة فتآمروا على قتله ففرّ إلى العيينة واجتذب قلوب قبيلته بالوعظ والإنذار والحجّة ووضوح المحجّة فالتفوا عليه وقوي حزبه , وأصبح من الزّعماء لكن لم يخل من أضداد كما هو الشّأن , فنسبوا إليه قتل امرأة ظلما فنفاه أمير الحسا إلى الدّرعيّة , وكان له بها أتباع أيضا لشيوع مذهبه فقبله أميرها محمّد بن سعود وأمره بنشر مبادئه التّي أسّسها الإمام أحمد بن تيميّة الحرّاني , وأصهر إلى الأمير ابن سعود بابنته وهي أمّ الأمير عبد العزيز بن سعود الذي ظهر بمظهر النّاشر لمذهبه النّاصر لفكره , وهو نبذ التّعلّق بالقبور وعدم نسبة التّأثير في الكون للمقبور , بل منع التّوسّل بالمخلوق وهَدَمَ الأضرحة التي تشييدها سبّب هذه الفكرة , وقد فصّلت ذلك في رسالتي : بيان مذهب الوهّابيّة , وفي كتابي : برهان الحق , وأعظم خلاف بينهم وبين أهل السّنّة هو مسألة التّوسّل وتكفيرهم من يتوسّل بالمخلوق , فالخلاف في الحقيقة ليس في الأصول التي ينبني عليها التكفير أو التّبديع , وإنّما هو في أمور ثانويّة وأهمّها هذه . ومن جملة مبادئهم التّمسّك بالسّنّة وإلزام النّاس بصلاة الجماعة وترك الخمر وإقامة الحدّ على متعاطيها ومنعها كلّيا في مملكتهم بل منع شرب الدخان ونحوه ممّا هو من المشبهات , ومذهب أحمد مبني على سدّ الذّرائع كما لا يخفى , ونحو هذا من التّشديدات التي لا يراها المتساهلون أو المترخّصون , وكلّ هذا لا يخالف السّنّة .
وهذا المذهب مؤسّسه في الحقيقة ابن تيميّة ولكن حاز الشّهرة محمّد بن عبد الوهّاب , وإليه نسبوه حيث توفق لإظهاره بالفعل , ونشره بالقوّة , وتمكّن من إحلاله محلاّ مقبولا من قلوب النّجديين الذين قاتلوا عليه , فأصبح بن عبد الوهّاب ذا شهرة طبقت العالم الإسلامي وغيره معدودا من الزّعماء المؤسّسين للمذاهب الكبرى والمغيّرين بفكرهم أفكار الأمم , وأنّ ابن سعود توصًل بنشر هذا المذهب لأُمنيته , وهي الاستقلال والتّملّص من سيادة الأتراك , والنّفس العربيّة ذات شمم فلقد بدأ أوّلا بنشر المذهب , فجرّ وراءه قبائل نجد وأكثريّة عظيمة من سيوف العرب , إذ العرب لا تقوم لهم دولة إلاّ على دعوة دينيّة , ولمّا رأى الأتراك ذلك ووقفوا على قصده نشروا دعاية ضدّه في العالم الإسلامي العظيم الذي كان تابعا لهم وشنّع علماؤهم عليه بالمروق من الدّين وهدم مؤسّساته واستخفافهم بما هو معظّم بالإجماع كالأضرحة وتكفير المسلم واستحلال دمائه إلى غير ذلك ممّا تقف عليه في غير هذا , وشايعهم جمهور العلماء في تركيا والشّام ومصر والعراق وتونس وغيرها وانتدبوا للرّدّ عليه بأقلامهم وخالفهم المولى سليمان سلطان المغرب فارتضى مبادئه إلاّ ما كان من تكفير من يتوسّل باستحلال دمائه فلا أظنّ أنّه يقول بذلك حتّى مدحه شاعره وأستاذه الشّيخ حمدون بن الحاج , وتوجّهت القصيدة مع نجل الأمير المولى إبراهيم حين حجّ ممّا تقف على ذلك في تاريخنا لإفريقيا الشّماليّة منقولا عن أبي القاسم الزّياني أو ( الصّياني ) وغيره , ثمّ حصحص الحق وتبيّن أنّ المسألة سياسية لا دينيّة فإنّ أهل الدّين في الحقيقة متّفقون , وإنّما السّياسة نشرت جلبابها وأرسلت ضبابها وساعدتها الأقلام بفصاحتها فكانت هي الغاز الخانق فتجسّمت المسألة وهي غير جسيمة ولعبت السّياسة دورها على مرشح أفكار ذهبت رشدها فسالت الدّماء باسم الدّين على غير خلاف ديني وإنّما هو سيّاسي وقد جرّدت تركيّا له الكتائب فكسرها واستولى على الحرمين الشريفين وغيرهما من الأقطار الحجازيّة فاستنجدت بأمير مصر محمّد علي باشا فجهّز جيشا عرمرما تحت إمرة ولده إبراهيم فطردوهم من الحرمين الشريفين وأُسر الأمير ابن سعود وحصرهم ضمن بعض نجدهم , وتتبّع ذلك في تواريخ الشرق , وعاد اليوم لهم ظهور وانتشار ووقع التّفاهُم مع علماء الإسلام وزالت غشاوة كلّ الأوهام وعلم كلّ فريق ما هو حقّ وما حاد فيه عن الطّريق , وكادت أن لا تبقى نفرة بين علماء نجد وبقيّة علماء الآفاق , ولا سيّما بوجود الملك عبد العزيز آل سعود ملك نجد والحجاز والحرمين وملحقاتها , الحالي الذي ظهرت منه كفاءة تامّة ونصرة للسّنّة بعد العهد بها من لدن أهل الصّدر الأوّل , واعتدل في الأفكار ونشر للأمن , ووحدة الإسلام والغيرة العربيّة والعدل في الأحكام فهو من أفذاذ ملوك الإسلام العظام ذوي السّياسة الإسلاميّة القويمة والكعب المعلي في الصّرامة والحزم والشّدّة في الرّفق والعزم قبل الضّيق والسّير على سنن السّلف بما شهد له محبّو العدل , أكثر الله في الإسلام أمثاله , وأطال عمره , وأطال يده على الأعداء , وزاده تأييدا وتسديدا وثباتا في مبدئه القويم المعتدل , وبلّغه مُناه , حتّى نرى الحرمين الشريفين والحجاز أرقى بلاد الإسلام .
توفي محمّد بن عبد الوهّاب سنة 1206 هجريّة .
نشرنا في العدد الثالث من هذه الصّحيفة فصلا قيّما بالعنوان أعلاه لصاحب السّعادة الأستاذ الفقيه سيدي محمّد الحجوي وزير المعارف بالمغرب الأقصى , وقُلنا إنّ لنا كلمة نعلّق بها على بعض النٌقط من كلام الوزير نُرجئها إلى عدد قابل , ووفاء بهذا الوعد الذي قطعناه للقرّاء نقول :
في كلام الوزير من الحقائق الثابتة مالا يخفى على أيّ مُنصف لم يعمّه الغرض والهوى , فهو يُقرّر كما هو الواقع << أنّ الإمام أبا عبد الله محمّد بن عبد الوهّاب الزّعيم الأكبر قد برع في علوم الدّين واللّسان وفاق الأقران , واشتهر بالتقوى وصدق التّديّن , عقيدته السّنة الخالصة على مذهب السّلف المُتمسّكين بِمحض القرآن والسّنّة , لا يخوض التّأويل والفلسفة , ولا يُدخلهما في عقيدته , وفي الفروع مذهبه حنبلي غير جامد . . . >> ويُقرّر أيضا ــ كما هو الواقع ــ أنّ مبادئ الوهّابيّة << التّمسّك بالسّنّة وإلزام النّاس بصلاة الجماعة وترك الخمر وإقامة الحدّ على مُتعاطيها ومَنعها منعا كلّيا من مملكتهم بل منع شُرب الدُخَان ونحوه ممّا هو من المشبّهات . . . وغير ذلك من التّشديدات التي لا يراها المُتساهلون المُترخّصون ( ! ! ! ) وكلّ هذا لا يُخالف السّنّة . . . >>
ولكنّه مع إثباته لهذه الحقائق قال : << . . . وأعظم خلاف بينهم وبين أهل السّنّة هو مسألة التّوسّل , وتكفيرهم من يتوسّل بالمخلوق . . . >> وهذا وهم وهمه سعادة الوزير , فإنّه لا يوجد في نفس الأمر أدنى خلاف بين الوهّابيين وبين أهل السّنّة إلاّ ما هو موجود بين أهل السّنة أنفسهم فالوهّابيّون حنابلة سُنّيون بأتمّ معنى الكلمة , وحسبك أنّه ليس لهم كُتب مذهبيّة للمذهب الوهّابي مثلا , بل كُتُبهم هي كُتب الحنابلة نفسها وهم حينما نظّموا القضاء الإسلامي في الحجاز لم يجعلوا في محاكمه الشّرعيّة قُضاة وهّابيين ولكنّهم نصبوا فيها قّضاة حنابلة وشوافع وحنفيّة ومالكيّة وإذا كان هناك خلاف فهو بين المُتمسّكين بالكتاب والسّنّة من أهل السّنّة وبين الجامدين منهم والمتساهلين المُترخّصين الذين يتّبعون أهواءهم , وهُنا مسألة جوهريّة لا بأس بالإشارة إليها ,وهي أنّ كُتب الحنابلة التي يقرئها الوهّابيّة وغيرهم هي كّتب سّنّة وحديث أكثر ممّا هي كُتب فقهيّة حنبليّة , وهم لا يزالون يُؤلّفونها على طريقة السّلف الصّالح وأئمّة هذا الدّين الحنيف , بخلاف كُتبنا نحن المالكيّة التي يُؤلّفها فُقهاؤنا المتأخّرون في المذهب المالكي مثلا فهي خالية من السّنّة والحديث حتّى إنّك لتقرأ كتابا ذا أجزاء من كُتب المُتأخّرين من أوّله إلى آخره فلا تكاد تعثر فيه على حديث شريف ولا على أثر من آثار الصّحابة رضي الله عنهم , وبعبارة أخرى أنّ كُتب الحنابلة المُتأخّرين لا تزال كّتب سنّة وحديث ككتُب المُتقدّمين أمّا كُتب المُتأخّرين من المالكيّة والحنفيّة مثلا فقد خلت كلّها أو جُلّها من السّنّة والحديث , بل يسوق لك مُؤلّفها الأحكام مُجرّدة عن كلّ نظر واستدلال ولا يخفى أنّ كتب السّنة والحديث تجعل قارئها سُنّيا سلفيا شديد الاتّصال بالرّسول صلّى الله عليه وسلّم وشديد الاتّصال بالسّلف الصّالح وبعيدا كلّ البعد عن التّقليد والجُمود وبعيدا عن البدع ومُحدثات الأمور , ومن هنا جاء الخلاف بين الوهّابيّة من أهل السّنّة الآخرين إن كان هناك خلاف . . . والوهّابيّون أو حنابلة نجد لا يقولون بكُفر من يتوسّل التّوسّل الشرعي , بل يقولون بكفر من يدعو مع الله إلها آخر , ومن معاني << التّوسّل >> عند الجامدين ( من أهل السّنّة ) أنّهم يدعون من دون الله مالا ينفعهم ولا يضرّهم ! وأحسب أنّ من يُطالع كتاب << التّوسّل والوسيلة >> لشيخ الإسلام ابن تيميّة يرى صدق ما نقول , وهذه العقيدة ليست عقيدة حنابلة نَجْدٍ وحدهم بل هي عقيدة السّلف الصّالح وعقيدة أهل السّنّة جميعا ( ماعدا الجامدين منهم والمُتساهلين ) .
وحسبنا أنّ مولانا سليمان سلطان المغرب الأقصى قد قبل الدّعوة الوهّابيّة وارتضاها ــ وهو صوفيّ تجاني ــ ولم يقبلها إلاّ بعد أن أرسل نجله المولى إبراهيم في وفد من العلماء الأعلام إلى الحرمين الشّريفين وتباحث الوفد المغربي مع بعض علماء نجد الوهّابيين فلمّا تحقّق علماء المغاربة أنّ الوهّابيّة ما هي إلاّ التّمسّك بالقُرآن الكريم وبالسّنّة النّبويّة الصّحيحة وافقوا عليها ووافق عليها كلّها المولى سُليمان , وإذا أنت تتبّعت أخبار هذا الوفد الذي أرسله مولانا سُليمان إلى الحجاز وما جرى بينه وبين علماء نجد من المُحاورة ظهر لك أنّه لا محلّ لهذا الاستثناء الذي استثناه سعادة الوزير إذ قال : << إلاّ ما كان من تكفيرهم من يتوسّل بالمخلوق >> ولا داعي له مُطلقا .
ولقد صدق الأستاذ الحجوي إذ قال : إنّ المسألة سيّاسيّة لا دينيّة وأنّ أهل الدّين في الحقيقة مُتّفقون وأنّ الأتراك العُثمانيين هم الذين أثاروا هذا النّكير وهم الذين نشروا هذه الدّعاية الكاذبة ضدّ ابن سعود الأوّل الذي كان افتكّ منهم الحرمين الشّريفين مُنذ مائة عام , وهم الذين استنجدوا بأمير مِصر محمّد على باشا الكبير فعاونهم هذا على طرد الوهّابيّة من الحرمين وعلى أسر ابن سعود , نعم الأتراك هم الذين سمّوا حنابلة نجد باسم << الوهّابيّة >> وهم الذين نشروا عنهم التّهم والأكاذيب في العالم الإسلامي واستأجروا الفقهاء في جميع الأقطار ليُؤلّفوا ويكتبوا ويكذبوا على حنابلة نجد وهم الذين ألّفوا كتابا ضدّ الوهّابيّة ونسبوه إلى الشّيخ سُليمان بن عبد الوهّاب شقيق الإمام محمّد بن عبد الوهّاب وهم الذين أخذوا ابن سعود أسيرا إلى الإستانة ولكنّهم نكثوا العهد الذي عاهدوه فقتلوه غيلة وغدرا , وأنا أعتقد أنّ للأجانب يدا في هذه الحرب التي أثارها الأتراك العُثمانيّون على ابن سعود فإنّه يسوءهم أن يستولي ابن سعود على الحجاز ويسوءهم أن ينشر فيه الأمن و العدل والرّحمة وأن يحكم فيه بما أنزل الله , وكان الحجاز على عهد الأتراك مباءة فوضى وقطع طُرق فلمّا جاءه الوهّابيّة أمّنوا سُبُله ونشروا فيه الطّمأنينة والعدل , وكان الأتراك في حرب مُستمرّة مع الأمير محمّد على صاحب مِصر , ووقعت بينهم وبينه وقائع مُؤلمة ذهب ضحيّتها آلاف من المُسلمين : الأتراك والمِصريين , واتّسع الخرق ما بينهما حتّى استعدى محمّد علي باشا بعض الدّول الغربيّة على الأتراك , واستعدى الأتراك عليه بالإنكليز , وقد تنازل التّرك للإنكليز عن عدن وعن قُبرص لقاء المعونة التي يبذلها الإنكليز للأتراك على محمّد علي , ولكنّ الإنكليز قد أخذوا عدن وقُبرص وأخذوا مِصر أيضا ! ! ومعنى هذا أنّ العداوة كانت مُستحكمة بين محمّد على وبين الأتراك إلى درجة أنّه لا يُمكن معها إصلاح ذات البين ما بينهما , ولكن لماذا اتّفق الأتراك ومحمّد علي على حرب الوهّابيين وعلى طردهم من الحجاز ؟ والجواب عن ذلك : أنّ الأجانب هم الذين وحّدوا بين الأتراك وبين محمّد علي باشا ضدّ ابن سعود , وهم الذين جعلوا من جنود محمّد علي ومن جنود الأتراك جيشا واحدا يُحارب حُكومة القُرآن ويَطرُدُها من الحجاز , لأنّ سياسة مِصر وسياسة تُركيّا كانت يومئذ في أيدي الأجانب يفعلون بها ما يشاءون .
* * *
بقي شيء واحد وهو قول الوزير :<< إنّ مُؤسّس هذا المذهب هو شيخ الإسلام ابن تيميّة , واشتهر به بن عبد الوهّاب , >> والواقع أنّ مُؤسّس هذا المذهب ليس هو ابن تيميّة ولا ابن عبد الوهّاب ولا الإمام أحمد ولا غيرهم من الأئمّة والعلماء , وإنّما مُؤسّسه خاتم النّبيّين سيّدنا محمّد بن عبد الله صلّى الله عليه وسلّم , على أنّه في الحقيقة ليس مذهبا , بل هو دعوة إلى الرّجوع إلى السّنّة النّبويّة الشّريفة وإلى التّمسّك بالقُرآن الكريم , وليس يهمّنا شيء آخر غير هذا .
وهران السّعيد الزّاهري
حاشيّة : عندما وقع هذا الخلاف القائم اليوم بين الإمام يحيى صاحب اليمن والملك ابن سعود جعلت الجرائد العربيّة في كلّ قُطر تُعبّر عنه بقولها : << الخلاف بين أهل السّنّة وبين الشّيعة >> والمراد بأهل السّنّة أهل نجد والحجاز وبالشّيعة أهل اليمن , ويحتجّ بعض الناس لابن سعود بأنّ أهل عسير هم سنّيون شوافع فهو أحقّ بحكمهم ويحتجّ آخرون لإمام اليمن بأنّ عسير هي أرض يمانيّة . ز .
قد رُميَ الشّيخ محمّد بن عبد الوهّاب بما رُمي به في حياته ــ بأنّه يُكفّر من يتوسّل لله وقد نفى هو عن نفسه ذلك ونفاه الكاتبون عنه من بعده , ونحن كنّا قرّرنا منذ سنوات عديدة في دُروسنا لتلامذتنا وفي غير دروسنا أنّ صور هذه المسألة ثلاث : الأولى أن يقول الدّاعي يا سيّدي فُلان , الثّانيّة أن يقول يا ربّ ويا سيّدي فُلان , وهاتان مُحرّمتان ليستا من الإسلام في شيء , الثّالثة : أن يقول يا ربّ أتوسّل إليك بسيّدي فُلان , وهذه مسألة علميّة وهي محلّ الخلاف . وقد رُميَ الشّيخ ابن عبد الوهّاب ممّا رُمي به في حياته ــ بأنّه يُكفّر من يتوسّل لله بالصّالحين من عباده , وقد نفى هو هذا عن نفسه , ونفاه الكاتبون عنه من بعده .وها نحن ننقل للقرّاء من كتاب << صيانة الإنسان عن وسوسة دحلان >> للعلاّمة الشّيخ محمّد بشير السّهسواني الهندي ــ ما يبيّن لهم ذلك ويُحقّقه , قال في ص 183 :
<< وقال الشّيخ حسين بن غنام الأحسائي في ( روضة الأفكار والأفهام لِمُرتاد حال الإمام ) العاشرة قولهم في الاستقصاء لا بأس بالتّوسّل بالصّالحين , وقول أحمد يُتوسّل بالنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم خاصّة مع قولهم أنّه لا يُستغاث بمخلوق ــ فالفرق ظاهر حدا وليس الكلام ممّا نحن فيه , فكون بعض يُرخّص بالتّوسّل بالصّالحين وبعضهم يخصّه بالنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأكثر العلماء ينهى عن ذلك ويكرهه هذه المسألة من مسائل الفقه , ولم كان الصّواب عندنا قول الجمهور أنّه مكروه فلا نُنكر على من فعله , ولا إنكار في مسائل الاجتهاد لكن إنكارنا على من دعا المخلوق أعظم ممّن يدعوا الله تعالى ويقصد القبر يتضرّع عند الشّيخ عبد القادر أو غيره يطلب منه تفريج الكُرُبات وإغاثة اللّهفات. وإعطاء الرّغبات , فأين هذا ممّن يدعوا الله مُخلصا له الدّين , لا يدعو مع الله أحدا , ولكن يقول في دُعائه أسألك بنبيّك أو بالمُرسلين أو بعبادك الصّالحين , أو يقصد قبر معروف أو غيره يدعو عنده , لكن لا يدعو إلاّ الله يُخلص له الدّين فأين هذا ممّا نحن فيه ا ه .
قال الشّيخ محمّد بن عبد الوهّاب في الرّسالة التي كتبها لأهل مكّة بعد مُناظرتهم : إذا عُرف هذا فالذي نعتقده وندين الله به أنّ من دعا نبيّا أو وليّا أو غيرهما , وسأل منهم قضاء الحاجات وتفريج الكربات , أنّ هذا من أعظم الشّرك الذي كفّر الله به المُشركين حيث اتّخذوا أولياء وشُفعاء يستجلبون بهم المنافع ويستدفعون بهم المضار بزعمهم , قال الله تعالى : (<< ويعبُدون من دون الله ما لا يضرّهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شُفعاؤنا عند الله >>) فمن جعل الأنبياء أو غيرهم كابن عبّاس أو المحجوب أو أبي طالب وَسائط يدعوهم ويتوكّل عليهم ويسألهم جلب المنافع , بمعنى أنّ الخلق يسألونهم وهم يسألون الله , كما أنّ الوسائط عند المُلوك يسألون المُلوك حوائج النّاس لِقُربهم منهم والنّاس يسألونهم أدبا منهم أن يُباشروا سُؤال المَلِك , أو لكونهم أقرب إلى المَلِك , فمن جعلهم وسائط على هذا الوجه فهو كافر مُشرك حلال الدّم والمال ا ه .
وقال الشّيخ في الرّسالة التي كتبها إلى عبد الله بن سحيم : إذا تبيّن هذا فالمسائل التي شنّع بها منها ما هو البُهتان الظّاهر وهي قوله أنّي مُبطل كُتُب المذاهب وقوله أنّي أقول أنّ النّاس من ستّمائة ليسوا على شيء , وقوله أنّي أدّعي الاجتهاد وقوله أنّي خارج عن التّقليد وقوله أنّي أقول أنّ اختلاف العلماء نقمة , وقوله أنّي أكفّر من يتوسّل بالصّالحين ــ إلى أن قال فهذه اثنا عشر مسألة , جوابي فيها أن أقول (<< سبحانك هذا بُهتان عظيم >>) ولكن قبله من بَهَتَ محمّد صلّى الله عليه وسلّم أنّه يسبّ عيسى ابن مريم ويسبّ الصّالحين (<< تشابهت قلوبهم >>) وبهتوه بأنّه يزعم أنّ الملائكة وعيسى وعُزيرا في النّار فأنزل الله في ذلك (<< إنّ الذين سبقت لهم منّا الحسنى أولئك عنها مُبعدون >>) الآية اه >>. ع .
ــ 1 ــ
وقفت على ما جاء من مقال العلاّمة الحجوي الوزير بالمغرب الأقصى في شأن إخواننا الحنابلة الذين يُدعَون بل يُنبزون بالوهّابيين منذ قيام العلاّمة المرحوم الشّيخ محمّد بن عبد الوهّاب القائم بدعوة الإصلاح والدّعاء إلى الكتاب والسّنّة كما جاء عن الله وعن الرّسول والرّجوع إلى ذلك وطرح ما أحدث المُبتدعة المسمّمين ــ باسم المفعول ــ بالباطنيّة المدسوسة والموروثة منذ القرن الرّابع عند قيام الدّولة الفاطميّة من مغربنا هذا بجحافلها واحتلّت القاهرة وسمّمت الأمّة كافّة وبعض العلماء خاصّة كمُحي الدّين بن العربي وابن الفارض والنّجم الإسرائيلي وابن سبعين وابن سينا الذين أحدثوا قولة القُطب والغوث والأبدال والسّبعة والسّبعين والأربعة والأربعين إلى غير ذلك ممّا أبطله العلم الصّحيح ولم يعترف به كالدّيوان وتصرّف الأموات وبناء القبور وزخرفتها وإعلاء القبب والطّواف بها , ولكن أمثال الدّجوي الأزهري يُجادلون بالباطل ليُدحضوا به الحق الذي قُلنا به وقال به العلاّمة الحجوي وزير المعارف , وقد استحسنّا أشدّ الاستحسان ما ساق في شأن إخواننا الحنابلة النّجديين , والحال أنّا قد وقفنا أيضا في كتاب تاريخ الاستقصا لأخبار المغرب الأقصى على جُملة في شأن آل السعود والإمام الشّيخ محمّد بن عبد الوهّاب وسنورد ذلك بعد إيراد جُملة وجيزة ذكرها صديقنا العلاّمة الإمام الإصلاحي الشّيخ محمّد رشيد رضا خليفة الأستاذ الإمام الشّيخ محمّد عبده رحمه الله , قال : ــ أعني الشّيخ رشيد ــ إنّي لا أعلم على وجه الأرض مذهبا يسمّى وهّابيا وإنّ هؤلاء الذين تنبزونهم بالوهّابيين حنابلة , وإنّما الدّولة العُثمانيّة لمّا رأت النّهضة التي قام بها الدّاعي إلى السّنّة المرحوم الشّيخ محمّد بن عبد الوهّاب ونصره آل سعود في القرن الماضي خشيت أن يعظم أمر العرب فدعت علماء السّوء للطّعن في الشّيخ محمّد بن عبد الوهّاب وأنصاره آل سعود لإحباط مساعيهم , وعُلماء الدّنيا كما قال الغزالي رحمه الله كثيرو الوقوف بأبواب السّلاطين , فكتبوا وألّفوا وجادلوا بالباطل ليُدحضوا به الحق والعياذ بالله , انتهى .ما قال الأستاذ صديقنا الشّيخ رشيد رضا ببعض التّصرّف إذ لم يحضرني لفظه, والمعنى الذي أردناه الآن أنّه :
إذا كان من الممكن أن نعذر أولئك العلماء الذين سخّرتهم الحكومة التّركية الظالمة بأنّهم مُكرهون أو مُغفّلون أو جاهلون بالحقائق ولم يسعهم البحث والنّظر والاستدلال بالتّدبّر فليس بالممكن أن نعذر أمثال الدّجوي وأمثال أصحاب جريدة أو جريدتين عندنا بالجزائر نرى أصحابها لا يكادون ينطقون إلاّ بقوله تعالى : (<< إنّما المؤمنون إخوة >>) والذم والطّعن فيمن يُفرّق بين المسلمين حتّى المُعتزلة منهم وسائر المُبتدعة من الفرق المُخالفة في الفروع وسلّمنا لهم ذلك وكذلك سمعناهم يقولون أنّ إنكلترا وإيطاليا كليهما تسعى في إحباط مساعي ابن السعود المرجوّ منه تقوية ولايته وتعزيز الحرمين الشّريفين وإصلاحها وبثّ الأمن في الحجاز حسب المشاهد ليكون ذا شوكة وليُطهّر الحجاز من الكفر والشّرك تطهيرا وبأنّ إنكلترا هذه لا تُحبّ أن يرضى مُسلموها غيرها وبأنّ من طبعها الدّسائس والإيعاز بما من شأنه التّنافر والتّباين بين المسلمين عموما وحُكوماتهم خصوصا إلى غير ذلك ممّا يعرفه كلّ من له أدنى إلمام بأحوال المسلمين وإنكلترا معهم , وإنّا لمّا كتبنا منذ أعوام بعض المقالات مُعترضين على طائفة مُخالفة لجماعة من مذهبنا المالكي قاموا بالنّكير علينا مع أنّ القضيّة محلّيّة خاصّة وسلّمنا أنّ التّوفيق بين المُسلمين جميعا واجب ولم نقل بغيره قطّ ومعاذ الله أن نأخذ بغير ما أخذ به فطاحل العلماء والكتّاب من التّسامح وجمع شمل الأمّة وأن لا نعتبر غير الأصول الإسلاميّة ــ فما بالهم الآن يحملون هذه الحملات المُنكرة على الإخوان الحنابلة بدعوى الوهّابيّة وهم في ذلك كما قيل :
( يقولون أقوالا ولا يعرفونها *** وإن قيل هاتوا حقّقوا لم يحقّقوا )
ولا نتّهمهم بأنّ إنكلترا حرّضتهم أو دسّت إليهم أو مدّتهم بشيء , وإنّما نقول أنّهم جهّال فسقة يعملون ضدّ العرب والعربيّة والإسلام وهم بذلك يسخطون الله كما قال تعالى : (<< واتّبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه >>) ويُرضون إنكلترا وإيطاليا وهكذا الإخلاص وهكذا الخدمة ! !
وليعلموا أنّ الوهّابيّة حنابلة من أهل السّنّة وليسوا من المُعتزلة الذين أنكروا علينا مُحاكمتهم فيما سطّروا وسطّرنا وبأنّ المذهب الحنبلي السُنّي من المذاهب الأربعة المُجمع عليها المرضيّة للاقتداء بها في الصّلاة وفي الأقوال والأفعال وزيادة على ذلك لِما أنّنا مالكيون فهم في غاية الاقتداء والاتّفاق مع مالك رحمه الله , وبأنّه عالم المدينة وأنّ غالب حججهم قال مالك كما في مسألة الاستواء وتجصيص القبور والبناء عليها والتّوسّل بها وبناء القبب عليها والالتجاء إليها عند الشّدائد والحلف بالمدفونين بها وغير ذلك من الاستشفاع الذي هو من الابتداع المتّفق عليه بين المالكيّة المُخلصين والحنابلة العاملين بما نبّههم إليه محمّد بن عبد الوهّاب كما نبّهنا نحن أبو إسحاق الشّاطبي صاحب كتاب الاعتصام وأمثاله.
وقد علمنا وعلم كثير من العلماء المفكّرين والمتأمّلين أنّ عمل الوهّابيين في شأن زيارة القبور هو مذهب مالك بالحرف وطريقه , ونُلفت الآن نظر المُخالفين من الدّجوي وأمثاله عندنا بالجزائر إلى ما في الشّفاء عموما في باب حُكم زيارة قبره صلّى الله عليه وسلّم وقول عياض << وكره مالك أن يُقال زُرنا قبر النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وقوله : قال مالك في المبسوط لا أرى أن يقف عند قبر النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ويدعو ولكن يُسلّم ويمضي إلى أن قال ــ أعني إمامنا ــ مالك رحمه الله لا يُصلح آخر هذه الأمّة إلاّ ما أصلح أوّلها .
يُتبع أبو يعلى الزّواوي
ــ 2 ــ
ولهذا قلت ومازلت ولن أزال أقول أنّ المالكي الذي يطعن في الوهّابيين يطعن في مالك ومذهبه من حيث يشعر أو لا يشعر أو أنّه جاهل أو مُتجاهل وقد تحيّر كثيرا صاحب الشّفاء من قول بكراهة من يقول زُرنا قبر النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم واحتال كثيرا على إيجاد تأويل لذلك كما يعلم الواقف عليه ولم يجد إلاّ قوله أعني قول صاحب الشّفاء والذي عندي انّ منعه وكراهة مالك له للإضافة إلى القبر وأنّه لو قال زُرنا النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم لم يكره لقول النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم اللّهمّ لا تجعل قبري وثنا يُعبد , اشتدّ غضب الله على قوم اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد فحمى إضافة هذا اللّفظ إلى القبر والتّشبّه بفعل أولئك , انتهى . قلت : لقد أصاب وهو من يعرف مناقب مالك ومذهبه المبني على سدّ الذّرائع وعلم أيضا أنّه لم يُرد في الصّحيحين ما يعتمد عليه من الأحاديث في كيفيّة زيارة قبره صلّى اللع عليه وسلّم ممّا يعتقده العامّة ويعملون به من إمساك شُبّاك النّبيّ صلّى الله علي وسلّم والاستغاثة به والطّلب منه أمورا من مصالحهم لم تُشرع , ولم تُسن , ولذا قال أيضا أعني صاحب الشّفاء : وقال مالك في المبسوط << لا أرى أن يقف عند قبر النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ويدعو ولكن يُسلّم ويمضي >> ,قال شارح هذا الموضع شهاب الدّين الخفاجي : ظاهره أنّ نذهب مالك عدم استحباب الوقوف مُطلقا >> , قلت فليتأمّل هذا الغلاة الطّوّافون بقبور الأموات الصّالحين ومُناداتهم والتّوسّل بهم , وهذا عين ما يقول الوهّابيون وابن تيمية وابن القيّم ومحمّد بن عبد الوهّاب رحمهم الله فيصبّون على الوهّابيين سوط الانتقاد والتّكفير وهو عين مذهب مالك وقوله وعمله , حتّى إنّ السبكيين انتقموا من ابن تيميّة رحمه الله لماذا هو حنبلي ويوافق مالك في غالب اقتدائه ويُخالف باقي الأئمّة والثّابت الصّحيح في زيارته صلّى الله عليه وسلّم بعد مماته , ما فعل ابن عُمر رضي الله عنهما فإنّه كما قال مولاه نافع أنّه رآه أكثر من مائة مرّة يأتي إلى قبر النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فيقول السّلام على النّبيّ السّلام على أبي بكر السّلام على أبي ثمّ ينصرف , انتهى .
ثمّ إنّ الغلاة يُؤذوننا ويُؤذون الإخوان الحنابلة بأنّنا وإيّاهم قد حططنا من قدر النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ومن قدر الولي إذا لم نعمل بما لم يثبت عن الأئمّة العظام كمالك الذي وُلد في أواخر القرن الأوّل وعاش في المدينة نحو قرن أي تسعين سنة ولحق عشرات الألوف من التّابعين والأئمّة الصّالحين حتذى إنّه لو أراد أن يكتم عنّا أو يبخل بشيء لا يُقبل منه مثل هذه الزّيارة ومثل القراءة على الجنائز والصّياح وراءها بأناشيد بالتّوقيع تلك البدع المُضادّة لبُرودة الوجل من الموت وسُكونه الذي قضت به الطّبيعة إذ الإنشاد أو التّلاوة إنّما يكون بباعث الحركة والحركة بالحرارة والحرارة ينشأ عنها الطّرب , والموت خلاف ذلك كلّه يا أولي الأبصار والاعتبار .
وها كم ما في الاستقصاء :
وفي هذه المدّة أيضا وصل كتاب عبد الله ابن السعود الوهّابي النّابغ بجزيرة العرب المتغلّب على الحرمين الشّريفين المُظهر لمذهبه بهما إلى فاس المحروسة وأصل هذه الطّائفة الوهّابيّة كما عند صاحب التّعريبات الشّافية وغيره أنّ فقيرا من عرب نجد يُقال له سُليمان رأى في المنام كأنّ شُعلة من نار خرجت من بدنه وانتشرت وصارت تأكل ما قبلها فقصّ رُؤياه على بعض المُعبّرين ففسّرها له بأنّ أحد أولاده يجدّد دولة قويّة فتحقّقت الرّؤيا في ابن ابنه الشّيخ محمّد بن عبد الوهّاب بن سُليمان فالمُؤسّس للمذهب هو محمّد بن عبد الوهّاب ولكن نُسب إلى عبد الوهّاب , فلمّا كبر محمّد احترمه أهل بلاده ثمّ أُخبر بأنّه قرشي ومن أهل بيت النّبيّ صلّى الله علليه وسلّم وألّف لهم قواعد وعقائد وهي عبادة الله واحد قديم قادر حق رحمان يُثيب المُطيع ويُعاقب العاصي وأنّ القرآن قديم يجب اتّباعه دون الفروع المُستنبطة وأنّ محمّدا رسول الله وحبيبه ولكن لا ينبغي وصفه بأوصاف المدح والتّعظيم , إذ لا يليق ذلك إلاّ بالقديم , وأنّ الله تعالى حيث لم يرض بهذا الإشراك سخّره ليهدي النّاس إلى سواء الطّريق فمن امتثل فيها ونعمت وإن أبى فهو جدير بالقتل , فهذه أصول مذهبه وكان قد بثّه أوّلا سرا فقلّده أناس ثمّ سافر إلى الشّام لهذا الأمر فلم يجد به مُراده , رجع إلى بلاد العرب بعد غيبته عنها ثلاث سنين , فاتّصل شيخ من أشياخ عرب نجد يُقال له عبد الله بن سعود وكان شهما كريم النّفس فقلّده وقام بنصرة مذهبه وقاتل عليه حتّى أظهره واقتسم الرّئاسة هو ومحمّد بن عبد الوهّاب فابن عبد الوهّاب صاحب الاجتهاد في مسائل الدّين وابن سعود أمير الوهّابيّة وصاحب حربهم وما زال أمر هؤلاء الوهّابيّة يظهر شيئا فشيئا إلى أن تغلّبوا على الحجاز والحرمين الشّريفين وسائر بلاد العرب , ثمّ قال صاحب التّعريبات الشّافية أنّ مساجد الوهّابيّة خالية من المنارات والقباب وغيرها من البدع المُستحسنة فلا يُعظّمون الأئمّة والأولياء ويدفنون موتاهم من غير مشهد واحتفال , يأكلون خبز الشّعير والتّمر والجراد والسّمك ولا يأكلون اللّحم والأرز إلاّ نادرا ولا يشربون القهوة وملابسهم ومساكنهم غير مُزيّنة ,ا ه . ولمّا استولى ابن السّعود على الحرمين الشّريفين بعث كُتبه إلى الآفاق كالعراق والشّام ومصر والمغرب يدعو النّاس إلى اتّباع مذهبه والتّمسّك بدعوته ولمّا وصل كتابه إلى تونس , بعث مُفتيها نُسخة منه إلى علماء فاس فتصدّى للجواب عنه الشّيخ العلاّمة الأديب أبو الفيض حمدون ابن الحاج , قال صاحب الجيش كان تصدّى الشّيخ أبي الفيض لذلك الجواب بأمر السّلطان وعلى لسانه فذهب بجوابه ولده المولى إبراهيم بن سُليمان حين سافر إلى الحج , وفي هذه السّنة أعني سنة ستّ وعشرين ومائتين وألف وجّه السّلطان المولى سُليمان رحمه الله ولده الأستاذ الفاضل المولى ابن إسحاق إبراهيم ابن سُليمان إلى الحجاز لأداء فريضة الحجّ مع الرّكب النّبوي الذي جرت العادة بخروجه من فاس على هيئة بديعة من الاحتفال وإبراز الأخبية لظاهر البلد وقرع الطّبول وإظهار الزّينة وكانت الملوك تعتني بذلك وتختار له أصناف النّاس من العلماء والأعيان والتّجّار والقاضي وشيخ الرّكب وغير ذلك ممّا يُضاهي ركب مصر والشّام وغيرهما , فوجّه السّلطان ولده المذكور في جماعة من علماء المغرب وأعيانه مثل الفقيه العلاّمة القاضي أبي الفضل العبّاس بن كيران والفقيه الشّريف البركة المولى الأمين بن جعفر الحسني الرّتبي والفقيه العلاّمة الشّهير أبي عبد الله محمّد العربي السّاحلي وغيرهم من علماء المغرب وشيوخه , فوصلوا إلى الحجاز وقضوا المناسك وزاروا الرّوضة المُشرّفة على حين تعذّر ذلك وعدم استيفائه على ما ينبغي لاشتداد شوكة الوهّابيين بالحجاز يومئذ , ومُذايقتهم لحجّاج الآفاق في أمر حجّهم وزيارتهم إلاّ على مُقتضى مذهبهم وحكى صاحب الجيش ( كتاب ) أنّ المولى إبراهيم ذهب إلى الحج واستصحب معه جواب السّلطان فكان سببا لتسهيل الأمر عليهم وعلى كلّ من تعلّق بهم من الحجّاج شرقا وغربا حتّى قضوا مناسكهم وزياراتهم على الأمن والأمان والبرّ والإحسان , قال حدّثنا جماعة وافرة ممّن حجّ مع المولى إبراهيم في تلك السّنة أنهم ما رأوا من ذلك السّلطان يعني ابن سعود ما يُخالف ما عرفوه من ظاهر الشّرع وإنّما شاهدوا منه ومن أتباعه غاية الاستقامة والقيام بشعائر الإسلام من صلاة وطهارة وصيام ونهي عن المُنكر الحرام وتنقية الحرمين الشّريفين من القاذورات والآثام التي كانت تُفعل فيها جهارا من غير نكير , وذكروا أن ّ حاله كحال آحاد النّاس لا يتميّز عن غيره بزيّ ولا ركوب ولا لباس وأنّه لمّا اجتمع بالشّريف المولى إبراهيم أظهر له التّعظيم الواجب لأهل البيت الكريم وجلس معه كجلوس أحد أصحابه وحاشيته وكان الذي توّلى الكلام معه هو الفقيه القاضي أبو إسحاق إبراهيم الزداغي فكان من جملة ما قال ابن سّعود لهم إنّ النّاس يزعمون أنّنا مُخالفون للسّنّة المحمّديّة فأيّ شيء رأيتمونا خالفنا من السّنّة وأيّ شيء سمعتموه عنّا قبل اجتماعكم بنا . فقال له القاضي : بلغنا أنّكم تقولون بالاستواء الذاتي المُستلزم لجسميّة المُستوي , فقال لهم معاذ الله إنّما نقول كما قال مالك الاستواء معلوم والكيف مجهول والسّؤال عنه بدعة , فهل في هذا من مخالفة , قالوا لا وبمثل هذا نقول نحن أيضا , ثمّ قال له القاضي : بلغنا أنّكم تقولون بعدم حياة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم , ارتعد ورفع صوته بالصّلاة عليه وقال : معاذ الله إنّما نقول أنّه صلّى الله عليه وسلّم حيّ في قبره وكذا غيره من الأنبياء حياة فوق حياة الشّهداء , ثمّ قال له القاضي : وبلغنا أنّكم تمنعون من زيارته صلّى الله عليه وسلّم وزيارة سائر الأموات مع ثبوتها في الصّحاح التي لا يُمكن إنكارها , فقال : معاذ الله أن نُنكر ما ثبت في شرعنا وهل منعناكم أنتم لمّا عرفنا أنّكم تعرفون كيفيتها وآدابها وإنّما نمنع العامّة الذين يُشركون العبوديّة بالألوهيّة ويطلبون من الأموات أن تقضي لهم أغراضهم التي لا تقضيها إلاّ الرّبوبيّة وإنّما سبيل الزّيارة الاعتبار بحال الموتى وتذكّر مصير الزّائر إلى ما سار إليه المزور ثمّ يدعو له بالمغفرة ويستشفع به إلى الله تعالى ويسأل الله تعالى المُنفرد بالإعطاء والمنع بجاه ذلك الميّت إن كان ممّن يليق أن يُستشفع به . هذا قول إمامنا أحمد بن حنبل رضي الله عنه , ولمّا كان العوام في غاية البُعد عن إدراك هذا المعنى منعناهم سدّا للذّريعة فأيّ مُخالفة لليسّنّة في هذا القدر ا ه . ثمّ قال صاحب الاستقصاء : قلت مسألة زيارة قبور الأنبياء مشهورة في كُتب الأئمّة وهي من القُرب المرغوب فيها عند الجمهور ومعها قوم من الحنابلة وشدّد تقيّ الدّين ابن تيميّة منهم فيها مُتحجّجا بقوله عليه الصّلاة والسّلام : لا تُشدّ الرّحال إلاّ إلى المساجد الثلاثة مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى وهو عند الجمهور مؤوّل بأنّ المعنى لا تُشدّ الرّحال لصلاة في مسجد إلاّ ثلاثة مساجد ا ه . وقد بسط القول في هذا صاحب المواهب اللدنية والقول الفصل أنّ التّبرّك بآثار الأنبياء عليهم الصّلاة والسّلام والأولياء رضي الله عنهم وزيارة مشاهدهم من الأمر المعروف عند أمّة محمّد صلّى الله عليه وسلّم المُجمع عليه خلفا وسلفا لا يسع إنكاره , غير أنّ للزّيارة آداب تجب المُحافظة عليها وشُروطا لا بدّ من مُراعاتها والوقوف لديها ثمّ القول بمنعها مُطلقا سدّا للذّريعة في حقّ العامّة إذ هم أكثر النّاس وُغولا في ذلك فيه نظر أمّا الأنبياء فلا ينبغي لعاقل أن يَحرّم نفسه من الوُقوف على مشاهدهم والتّبرّك بتُربتهم والاحتماء بحماهم ولا أن يقول بذلك لمزيد ارتفاع درجتهم عند الله تعالى ولِنُدور اتّفاق زيارتهم لأكثر الغرباء . وأمّا الأولياء فالقول بمنع زيارتهم سدّا للذّريعة مع بيان العلّة وإشهارها بين النّاس حتّى لا يلتبس عليهم المقصود قول وجيه لا تأباه قواعد الشّريعة بل تقتضيه والله أعلم .
وهذا القول هو الذي قال به الشّيخ الفقيه الصّوفي أبو العبّاس أحمد التّجاني رحمه الله تعالى حتّى نهى أصحابه عن زيارة الأولياء وأقول أنّ السّلطان المولى سليمان رحمه الله كان يرى شيئا من ذلك ولأجله كتب رسالته المشهورة التي تكلّم فيها على حال مُتفقّرة الوقت وحذّر فيها رضي الله عنه من الخروج عن السّنّة والتّغالي في لبدعة وبيّن فيها بعض آداب زيارة الأولياء وحذّر من تغالي العوام في ذلك وأغلظ فيها مُبالغة في النّصح للمسلمين جزاه الله خيرا ومن كلامه فيها ما نصّه : تنبيه من الغلوّ البعيد ابتهال أهل مرّاكش بهذه الكلمة سبعة رجال فهو كان لسبعة رجال شيعة يطوفون عليهم إلى أن قال فعلينا أن نقتد بسبعة رجال ولا نتّخذهم آلهة لئلا يئول الحال فيهم إلى ما آل إليه في يغوث ويعوق ونسرا الخ كلامه وصدق رحمه الله فكم من ضلالة وكُفر أصلها الغلوّ في التّعظيم إلى أن قال ــ صاحب الاستقصاء ــ وحكى ابن إسحاق في السّيرة أنّ أصل حدوث عبادة الحجر في بلاد العرب أنّ آل إسماعيل عليه السّلام لمّا كثروا حول الحرم وضاقت بهم فجاج مكّة تفرّقوا في النّواحي وأخذوا معهم أحجارا من الحرم تبرّكا بها فكان أحدهم يضع الحجر في بيته فيطوف ويتمسّح به ويُعظّمه ثمّ توالت السّنون وخلفت الخلوف فعبدوا تلك الأحجار ثمّ عبدوا غيرها وذهبت منهم ديانة إبراهيم وإسماعيل عليهما السّلام إلاّ يسيرا جدّا بقى فيهم إلى أن صبّحهم الإسلام . هذا معنى ما ذكره ابن إسحاق وقد تكلّم الشّاطبي وغيره من العلماء فيما يقرب من هذا وذكروا أنّ الغلوّ في التّعظيم أصل من أصول الضّلال ولو لم يكن في ذلك إلاّ قضيّة الشّيعة لكان كافيا ا ه . ما أخذناه من تاريخ الاستقصاء . الزواوي
]]>للغرب الإفريقي ابن عالم بار نسله بنو هلال وأنجبه المغرب الأقصى , هو العلاّمة الأستاذ محمّد تقيّ الدّين الهلالي المدرّس بالهند , لهذا الأستاذ شُهرة علميّة إصلاحيّة عظيمة بالشّرق ومقالات رنّانة في صُحف وهو ــ على بُعده عن الغرب الإفريقي لا يفتر عن العناية به والتّتبع لأحواله والكتابة عنه , وها هو اليوم قد أتحفنا بهذا المقال النّفيس الذي نشرناه فيما يلي , شاكرين لفضيلته عنايته وفضله :
ــ 1 ــ
قال الله تعالى (<< ومن أظلم ممّن منع مساجد الله أن يُذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلاّ خائفين لهم في الدّنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم >>) صدق الله العظيم .
لم يزل النّاس يرقبون جمعيّة العلماء في الجزائر وأعمالها مُنذ نشأتها حتّى الآن ويلحظُونها بعين الإعجاب والسّرور , بل عدّوها منقبة وفخرا للمسلمين في المعمورة كلّها عموما ولأهل الجزائر خُصوصا لأنّ هذه الجمعيّة بعد جمعيّة علماء الهند هي ثانية اثنين , ولأنّ النّاس لم يكونوا يأملون من أهل الجزائر الذين يظنّون أنّهم نسوا العربيّة والإسلام من زمان حتّى إنّ المسبوق منهم إذا دخل المسجد ليُصلّي ورأى الإمام راكعا قال له << أتاندي مسيو >> بدلا من قول المسبوق في مِصر للإمام إنّ الله مع الصّابرين , يريد منه بذلك انتظاره ليُدرك الرّكعة . وقد سمعت وقرأت من هذا الشّيء الكثير , واحتججت وأبنت أنّ تلك الشكاة ظاهر عارها عن الجزائريين ولكن بعض النّاس لم يشأ أن يرجع عن اتّهام الجزائريين بالجهل والاستعجام وأصرّ على ذلك إلى الآن هذا هو اعتقاد عامّة أهل المشرق وجلّ خاصّتهم أو كلّهم حتّى ظهرت مجلّة الشّهاب الغرّاء طافِحة بالمقالات المُتنوّعة مكسُوّة حُلّة جميلة من البلاغة العدنانيّة الخالصة فلم ينقض عجب النّاس من هذه المفاجأة إذ لم يكن يخطر ببال أنّ أحدا من أهل الجزائر يعرف العربيّة العامية لأنّ السّائحين من أهل المشرق أطبقوا على أنّهم لقوا في فيشي وغيرها أهل الجزائر فما أمكنهم التّفاهم معهم إلاّ باللّغة ( الفرنسيّة ) فضلا عن أن يكون فيهم أدباء فُرسان في ميادين الفصاحة وعُلماء فطاحل مُتبحّرين في ميراث محمّد صلّى الله عليه وسلّم , ومن ذلك العهد أخذ رأي النّاس يتغيّر في أهل الجزائر واستبشروا وذهب عنهم اليأس . وعلموا أنّ في الرّماد وميض نار يوشك أن يكون لها ضرام , علموا أنّ هناك نهضة علميّة وأنّ أبناء يعرُب في الجزائر وإخوانهم القبائليين المُستعربين لم يكونوا ليبيعوا ميراث نبيّهم وتُراث أسلافهم وذخائر آبائهم بثمن بخس من رطانات الأجانب لم يكونوا ليستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير , لأنّ محمّدا رسول الله هو بحر العلم والمعارف الزّاخر , وهو المثل الأعلى في الأخلاق الكريمة وما حييت أمم الغرب بعد موتها , ولا استأنست بعد توحّشها ولا تمدّنت بعد أبودها إلاّ بقبسة اقتبستها ورشفة ارتشفتها من فضلات علم محمّد النبيّ الأميّ رحمة العالمين , استبشر العرب والمُسلمون وصاروا يعدّون الجزائر فيما يعدّون من شعوبهم الحيّة بعدما كانوا يَترجمون عليها ويتأسّفون على فقدها ثمّ أطردت حركة العاملين لإحياء النّفوس بإحياء العلوم والأخلاق في الجزائر إطرادا مُستمرّا حتّى وصلت إلى تأليف جمعيّة العلماء فازداد النّاس استبشارا وتفاؤلا وذهب عنهم الرّوع الذي كان يُساورهم , فلم يرعهم إلاّ الشّيطان قد نفخ في أنوف قوم يُحبّون الصّيد في الماء العكر وآخرون مالئوهم لأغراض نفسية سخيفة اشتروها بدينهم وعروبتهم وشرف أمّتهم وبئسما اشتروا , وأوشاب من العوام الجهّال المساكين أتباع كلّ ناعق والذي تولّى كبره منهم له عذاب أليم , فأخذ هؤلاء الأشابة الأمشاج يكيدون كيدا (<< والله يكيد كيدا >>) أراد هؤلاء المشائيم أن يقضوا على جمعيّة العلماء ومشروعاتها وغرسها في مهدها قبل أن تُؤتي ثمارها اليانعة التي تعوق شياطين الإنس المُتآكلين بالدّين عن مآكلهم وساءهم أن يروا الحياة تدبّ في جسم الأمّة الجزائريّة البائسة التي توالت السّنون على أرض عقول أبنائها الخصبة وأرادوا أن يفجعوا العالم الإسلامي والعربي وسائر أهل الشرق بنبأ موت الجمعيّة وموت إصلاحها وغور ينبوع نورها ولم يرقبوا في الأمّة ولا في الدّين إلاّ ولا ذمّة وقست قلوبهم وغلظت طباعهم فلم يرقوا لحال أبناء الجزائر ونشئها الذين بدءوا يتذوّقون لُبان العلم ويُطفئون لهيب ظمأهم بماء الحياة , وأرادوا بهم كيدا ليُردوهم ويُردوهم في حافرتهم وينكصوهم على أعقابهم ويئدوهم ويدسّوهم في التّراب ألا ساء ما يزرون .
وقع هذا النّبأ على المسلمين من مصر إلى الصّين وقوع الصّاعقة فصعقوا له وخرّوا مغشيا عليهم من هوله فلمّا أفاقوا تضرّعوا إلى الله واستغاثوا به وقالوا يا لله للمسلمين يا لله للمساجد والمدارس التي يستقي منها أبناء الجزائر غلمانا وشبّانا وكهولا وشيوخا ماء حياة قلوبهم وسعادة أرواحهم واضطرب النّاس لهذا النّبأ أيّما اضطراب وكتبت فيه الصّحف فصولا طوالا وصار حديث النّاس وشُغلهم الشّاغل .
لقد جرّ هؤلاء القوم على حكومة الجزائر والحكومة الفرنسيّة بأسرها جريرة هي شرّ وأدهى من جريرتهم على الشّعب والقرآن والدّين لأنّ هذا النّبأ أثار ثائر السّاخطين فضجّوا ضجيجا وأطلقوا ألسنتهم وأقلامهم في الحكومة الفرنسيّة وزاد سوء ظنّهم بها .
نحن هنا في الشّرق نُشاهد الأمور ونُدرك دقيقها وجليلها , لأنّنا جالسون على مرقب وفي أيدينا مجاهر مُكبّرة , وقد علمنا جميع ما ينتقده المُسلمون على سياسة الحكومة الفرنسيّة ولم نر الناس تألّموا لحادثة ما تألّموا لمنع العالم الدّاعي إلى الله الأستاذ السّعيد الزّاهري من الوعظ وقبله منع الأستاذ العلاّمة الشّيخ الطّب العقبي من الوعظ في مسجد الجزائر , إنّ أعداء فرنسا قد استغلّوا هذه الحادثة ونشروا بها دعاية مُضرّة جدا بسمعة فرنسا ومصالحها في الشّرق ضررا بالغا فليتأمّل حكّام الجزائر وأولوا الأمر فيها ولينظروا في العواقب والنّتائج , فإنّ اضطهاد جمعيّة العلماء المُصلحين في الجزائر جناية على فرنسا قبل كلّ أحد من دون أن يكون لها فيها نفع أصلا فإنّ النّاس إذا مُنعوا من درس كتابهم و حديث نبيّهم في المساجد ذهبوا إلى بيوتهم وما زادهم ذلك إلاّ رغبة وكانت عواقبه وخيمة , هذه نصيحتنا لأولي الأمر في الجزائر .
المصلحون خير للحكومة لأنّهم متعلّمون متنوّرون متديّنون يوفون بعهودهم ويحفظون وعودهم ويُصلحون في الأرض ولا يُفسدون , المصلحون عضد الحكومة الأيمن في ترقية البلاد أخلاقيا والأخلاق هي رأس المال وعلميا ودينيا ودُنيويا , والمصلحون لهم طرق وملكات يقتدرون بها على تربية النّشئ وإنقاذ الشّعب من الجهل والرّذائل لا تجدها الحكومة عند غيرهم ونحصر كلامنا في الوجهة الأخلاقيّة التي إن صلحت جاءت السّعادة تسعى للحكومة والأهالي , فقلّت الجرائم أو فقدت وصدقت العهود وفقدت البطالة والتبذير والفجور وأقبل النّاس على أعمالهم وأقفرت دور القمار والدّعارة والسّكر وامتلأت المدارس والمساجد والمزارع والحوانيت وقاعات المحاضرات فلا يُفلس تاجر ولا يتأخر فلاح عن دفع ضريبة ولا يزيّف أحد نقودا وينعدم قتل الغيلة والاعتداء وينشأ شبّان جدد تثق بهم الحكومة في مباشرة جلائل الأعمال إذا عاهدوا وفّوا وإذا حدّثوا صدقوا وما أحوج الحكومة إلى أمثالهم لأنّها تقدر أن تعتمد عليهم إذ يؤدّون واجباتهم ووظائفهم بوازع من أنفسهم الطّيبة وعقيدتهم الخالصة ولا تُميلهم رياح الأهواء والفتن لا خوفا من عقاب الحكومة فإن الذي يخدم الحكومة ويؤدّي واجبه إليها خوفا منها يكون دائما متربّصا بها الدّوائر ومنتظرا الفرص فمتى قدر على خيانتها سرا أو جهرا خانها والحكومة لا تعلم الغيب وربّما ارتكب الخيانة لإرضاء شهوة خسيسة من شهواته إذ لا دين له ولا أخلاق وقد ضمن له شيخه بزعمه أنّ ما عمل من الذّنوب يُغفر له ولا تمسّه النّار وإن قتل سبعين نفسا إلى غير ذلك من الخرافات المستقرّة في دماغه , وإن ارتابت الحكومة فلتُلق نظرة على الفسقة والمجرمين فإن وجدت أكثرهم من الإصلاحيين فلتنظمّ إلى جانب أعدائهم وإن وجدت أكثر المُجرمين من أتباع من يملكون الجنّة والنّار بزعمهم ويتصرّفون في الأرزاق والأعمار والصّحة والمرض والنّصر والخذلان الخ الخ فليت شعري ماذا تركوا لله ! فناهيها ذلك برهانا على صدق قولنا وخُلوص نصيحتنا وكاتب هذه السّطور من أهل المغرب يعرف حقيقة الفريقين وباطن أمرهما وظاهره .
كنت في ناحية العين الصّفراء في العقد الرّابع من هذا القرن ورأيت أهل البادية يتحدّثون بأخبار كثير من الدّجاجلة الذين يزعمون أنّهم أهل الوقت وأنّ الوقت الذي تتعطّل فيه آلات الفرنسيين ويسيل سلاحهم بالماء ويتولّى الحكم والسّلطنة صاحب الوقت قريب , فكم من دجاجلة كانوا يطوفون ويبثون أمثال تلك الخرافات ويحثون العامة الجاهلين على الاستعداد للحرب ويَعِدُونهم بالإمارات ويبيعون الولايات بيعا فيقول أحدهم أيّكم يشتري قيادة ( العرش ) الفلاني بخمسمائة فرنك فيقول أحد الجهلة أنا وينقده الدّراهم ويعدهم ويُمنّيهم وما يعدهم الشّيطان إلاّ غرورا , فكم يجرّ هؤلاء الأولياء أولياء الشّياطين من ويلات وبلايا على الأمّة والحكومة وقد ذهبت أرواح وأحوال في وقائع من فتنهم ليس لها سبب إلاّ الولاية والقبطانيّة الكاذبة والحكومة جديرة أن لا تثق بهذه الطّائفة وإن أظهرت لها الميل لأنّها جاهلة , وقد قال العلماء : عدوّ عاقل خير من صديق جاهل , وكلّ من تلقّى درسا من دروس المصلحين يكون ترياقا له فلا يقع في حبائل الدّجالين .
يُتبع محمّد تقي الدّين الهلالي
اعلموا وفّقكم الله لسلوك سواء السّبيل وحفظكم من الوقوع في مهاوي الجهالة أنّ المؤمنين جميعا أولياء الله ومن لم يكن وليّ الله فهو عدوّ الله وقد رأينا كتاب الله جعل النّاس فريقين أولياء الله وأعداء الله وبيّن أوصاف الفريقين لكن ولاية الله تتفاوت تفاوتا عظيما فمن المُسلمين من يكون حظّه منها ضئيلا جدا حتّى يكون ظاهره بأعداء الله أشبه منه بأوليائه وهذا الذي يُخلف عليه سوء الخاتمة لانهماكه في المعاصي وجهله بما جاء به كتاب الله وسنّة نبيّه ولقلّة نصيبه من أسباب الولاية التي ذكرها الله في قوله << ألا إنّ أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتّقون لهم البُشرى في الحياة الدّنيا وفي الآخرة >> فجعل الله الإيمان والتّقوى شرطا في نيل الولاية والإيمان والتّقوى يتوقّفان على معرفة ما يُؤمن به المرء وما لا يُؤمن به وما يتّقيه وما يعمله وقال الإمام ابن عاشر رحمه الله :
وحاصل التّقوى اجتناب وامتثال *** في ظاهر وباطن بذا تُنال
وإنّما يعرف ذلك بمعرفة الكتاب والسّنّة اللّذين هما موضوع درس المُصلحين , فمن النّاس من يُفّقه الله إلى العلم والعمل فيزيد إيمانه وتقواه فتكون درجة ولايته عالية عظيمة إلى أن يبلغ إلى الصّدّيقيّة ومنهم من يقلّ إيمانه وتقواه ويستزلّه الشّيطان ويُزيّن له مُعاداة العلماء واتّباع الجهّال فيضلّونه حتّى يبلغ إلى دركة الفسق ويكوننور إيمانه ضعيفا مع اشتداد رياح البدع والأهواء فربّما أدركته عناية سابقة فتاب ورجع إلى الله باتّباع الكتاب والسّنّة والسّلف الصّالح ورُبّما انطفأ نور إيمانه فمات على سوء الخاتنة عياذا بالله ولِياذا به . وبين الفاسق والصّديق درجات كثيرة حسب تفاوت النّاس في الإيمان والتّقوى .
الصّدّيقيّة هي الولاية الكبرى وهي ما أخفاه الله وحرّم على عباده أن يتقدّموا بين يديه فيدعوا لأنفسهم أو لغيرهم إلاّ على سبيل الظّنّ والرّجاء فلا بأس أن يقولوا في رجل أنّه صالح ونرجو أن يكون من أهل الولاية الكبرى ولا يجزمون إلاّ إذا أخبر الله ورسوله عن أحد أنّه صدّيق أو من أهل الجنّة فإنّهم يجزمون بذلك ويُؤمنون . هذه هي عقيدة أهل السّنة وليس الرّقص والجهل والحفلات الكنسية بسبيل إلى الولاية البتّة والمُصلحون يُحبّون أولياء الله الكاملين ويدعون النّاس إلى اتّباعهم وقد كان الإمام مالك وأصحابه كالشّافعي وأحمد ويحيى وعبد الله بن يوسف وغيرهم من أهل الولاية الكُبرى ولا يُمكن لوليّ من أهل القرون الأخيرة أن يبلغ مبلغهم فهم أولى بالاتّباع لأنّهم من أهل القرون المُفضّلة والمُصلحون يتّبعونهم فهل يتّبعهم أضدادهم فهذا الميزان بين أيديكم أيّها المُنصفون فزنوا واحكموا ولا تتّبعوا الهوى وتشطّوا في الحكم . محمّد تقيّ الدّين الهلالي
أيّها النّائب الجهول ما حملك على محاربة أولياء الله وأتباع نبيّه وحزبه , ألم تسمع ما جاء في الحديث القدسي : من آذى لي وليا فقد آذنته بالمحاربة ؟ ألك يدان بمحاربة الواحد القهّار ؟ أما كان يجب عليك أن تنصُر دين الله وسنّة نبيّه ؟ أخلقك الله لأن تأكل وتشرب كالأنعام وتجلس على كرسي النّيابة فتكون نائبة على ملّة إبراهيم وأتباعها ؟ أنائب هتلر أم روزفيلت ؟ إنّ كرسيّك مع احترامه ليس بكرسي رئيس الجمهوريّة ولا صدر الوزراء ! ألم يبلغك ما قاله هتلر في خطبته من نصرة الدّين النصراني ؟ أتريد أن يقلب الله بك ذلك الكرسي الصّغير وينبذك بالعراء ؟ ما حملك على الدّخول فيما لا يعنيك من أمر الدّين ؟ تقول إنّ أهل الجزائر مالكيون وليسو وهّابيين والمصلحون يدعون النّاس إلى الكتاب والسّنّة وهما من حظّ الوهّابيين ولا حظّ فيهما للمالكيين ! أتدري ما تقول , إنّ مالكا وأتباعه يبرؤون إلى الله من قولك , جعلت مالكا والمالكيين ضدّ الكتاب والسّنّة وشتمتهم بجهلك خوفا على كرسيّك . . . . ومن خاف من شيء سُلّط عليه , أمّا المصلحون إنّما يدعون إلى مذهب مالك وإلاّ فأخبرني أين يوجد في الموطّأ والمدوّنة باب الرّقص , باب دعاء غير الله , باب النّذر لغير الله , باب الذبح لغير الله , باب حلول الله في خلقه تعالى , باب القول على الله بلا علم , باب الشّهيق والنّهيق , باب تقبيل الأيدي , باب خداع النّاس واستتباعهم وتوزيعهم كقطعان الغنم كلّ ذئب يعث في قطعة .
أهذه البدائع والمنكرات هي مذهب مالك أم هي سبيل هالك ؟ إنّ كلّ من قرأ خطبتك الرّكيكة البذيئة اللّفظ والمعنى يسخر منك ومن هذه النّيابة التي تبيع لها دينك وحظّك من السّنّة وعلى ذلك فأنت عمّا قليل مفارقها , بالله عليكم لا تكونوا سبّة علينا فإنّنا نستحي من النّاس إذا اطّلعوا على أخباركم ومُحاربتكم للمُصلحين , لم يذكر أحد الجزائر بشفة ولا لسان إلاّ بعد قيام هذه الجماعة العالمة العاملة لخير بلادها وأمّتها خاصّة ولخير العالم عامة , فعاضدوها وناصروها وإلاّ فاكفوها شرّكم وكونوا لا عليها ولا لها وإلا فاعلموا أنّكم غير معجزي الله .
أمّا أنتم يا إخواني العلماء فقد قمتم بما أوجب الله عليكم ونصحتم لله ولكتابه ولرسوله ولعامّة المسلمين وصبرتم على الأذى في سبيله ودرأتم السّيئة بالحسنة زمانا ثمّ أدركم الملال وسئمتم واستفزّتكم الحميّة فطفقتم تشاركون أضدادكم في رذيلة الألفاظ البذيئة والكلمات القارسة الموجعات , ألا يكفيكم أنّكم تؤذون النّاس بالحيلولة بينهم وبين ما يشتهون من المعاصي والبدع وتُحوّلونهم عمّا ألفوه واستمتعوا به من ذلك حتّى تزيدوهم الغلظة والفظاظة ؟ لا ! لا ! ارجعوا إلى ما كنتم عليه ودعوا هذا الخُلُق فإنّه لايزيّنكم ولا يليق بمقامكم العالي , إن انتصرتم فإنّ اللّين والإعراض عن الجاهلين وأخذ العفو لا يزيدكم إلاّ نصرة , وإن خُذلتم فإنّ الشّدّة والعنف لا يزيدانكم إلاّ خذلانا , نظّفوا صحيفتكم من الجوارح , حسبكم في جرح أعدائكم وقتلهم أن تدعوا إلى سنّة النّبيّ وتنصرونها وتُنفّروا عن البدعة وتُميتوها , ولعمري من كان عنده سلاح كسلاحكم فهو غني عن الغلظة والبذاءة وكيف تتركون الرّماح الخطّية وتطعنون بالشّوك , وأسأل الله في الختام أن ينصر الحق ويخذل الباطل ولو كره المُجرمون .
هنيئا لك أيّها الأخ العزيز , ما سال من دمك في سبيل الله وما سال من قلمك في سبيل الله وما سال به لسانك في سبيل الله , إنّ هذه الشّجة التي تُزيّن بها رأسك العظيم لوسام ُ شرف خالد يشهد لك في هذه الدّار بجهادك في سبيل الله وحمل الأذى فيه وفي الآخرة بما قمت به من أداء الأمانة (<< فما وهنوا لما أصابهم في سبيل اله وما ضعفوا وما استكانوا والله يُحبّ الصّابرين >>) أولئك الذين هدى الله وكتب لك أن تكون منهم لقوّة إيمانك , وأكرمك بأن ورثت من علومه وهديه , إنّ مَن أرخَصَ دمه في سبيل نصرة السّنّة وإنقاذ الأمّة لا يُضيّعُ الله عمله أبدا وإنّه لجدير أن يعلي الله قدره ويرفع ذكره , فإلى الأمام ولا تحزن إنّ الله معك . محمّد تقيّ الدّين الهلالي .
]]>هذه ثمان قواعد أو تمهيدات أراها مهمة لمن أراد الدخول في النقاش مع المناوئين لدعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب - رحمه الله - استللتها من كتابي " ثناء العلماء على كتاب الدرر السنية والرد على من تطاول عليه "؛ كحسن المالكي
للشيخ سليمان بن صالح الخراشي
تمهيد ( 1 ) :الطعن في دعوة الشيخ ليس بالأمر الجديد
تمهيد ( 2 ) : الحوار لا ينبغي أن يكون عن وجود " التكفير " ، إنما يكون عن أسبابه
تمهيد ( 3 ) : عند المخالفين : من قال " لا إله إلا الله " فقد برئ من الكفر مهما ارتكب من النواقض !
تمهيد ( 4 ) : عدم فهم المخالفين لحقيقة العبادة
تمهيد ( 5 ) : خلط المناوئين للشيخ بين " التوسل " البدعي والشركي ! ثم افتراؤهم على الشيخ أنه يُكفر بالأول !
تمهيد ( 6 ) : خصوم الدعوة كفّروا الشيخ – رحمه الله – وأتباعه ، وبادروهم بالقتال
تمهيد ( 7 ) : واقع أهل نجد قبل دعوة الشيخ محمد – رحمه الله -
تمهيد ( 8 ) : أصول الشيخ محمد بن عبدالوهاب – رحمه الله - في قضية التكفير.
<< إنه يوم اجتماع الناس وتذكيرهم بالمبدأ والمعاد، وقد شرع اللّه سبحانه وتعالى لكل أمة في الأسبوع يوماً يتفرَّغون فيه للعبادة، ويجتمعون فيه لتذكُّر المبدإ والمعاد، والثواب والعقاب، ويتذَّكرون به اجتماعهم يوم الجمع الأكبر قياماً بين يدي رب العالمين، وكان أحق الأيام بهذا العرض المطلوب اليوم الذي يجمع اللّه فيه الخلائق، وذلك يوم الجمعة، فادَّخره اللّه لهذه الأمة لفضلها وشرفها، فشرع اجتماعهم في هذا اليومٍ لطاعته، وقدَّر اجتماعهم فيه مع الأمم لنيل كرامته، فهو يوم الاجتماع شرعا في الدنيا، وقدراً في الآخرة، وفي مقدار انتصافه وقت الخطبة والصلاة يكون أهل الجنة في منازلهم، وأهل النار في منازلهم، كما ثبت عن ابن مسعود من غير وجه أنه قال: لا ينتصف النهارُ يوم القيامة حتى يَقِيلَ أهلُ الجنة في منازلهم، وأهل النارِ في منازلهم، وقرأ: {أصحابُ الجَنَّةِ يومئذٍ خير مستقراً وأحسنُ مَقيلاً} [الفرقان:24] وقرأ: {ثُمَّ إنَّ مَقِيلَهْم لإِلى الجَحِيم}، وكذلك هي في قراءته. ولهذا كون الأيام سبعة إنما تعرِفُه الأمم التي لها كتاب، فأما أمة لا كتاب لها، فلا تعرف ذلك إلا من تلقَّاه منهم عن أمم الأنبياء، فإنه ليس هنا علامة حِسِّية يُعرف بها كونُ الأيام سبعة، بخلاف الشهر والسنة، وفصولها، ولما خلق اللّه السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام , وتعرَّف بذلك إلى عباده على ألسنة رسله وأنبيائه، شرع لهم في الأسبوع يوماً يُذكِّرهم فيه بذلك، و بحكمةِ الخلق وما خلقوا له، وبأجَل العالمِ، وطيِّ السماوات والأرض، وعَودِ الأمر كما بدأه سبحانه وعداً عليه حقاً، وقولاً صدقاً، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في فجر يوم الجمعة سورتي (الم تنزيل)؟ (هل أتى على الإِنسان) لما اشتملت عليه هاتان السورتان مما كان ويكون من المبدأ والمعاد، وحشر الخلائق، وبعثِهم من القبور إلى الجنة والنار، لا لأجل السجدة كما يظنه من نقص علمه ومعرفته، فيأتي بسجدة من سورة أخرى، ويعتقد أن فجر يوم الجمعة فضِّل بسجدة، وينكر على من لم يفعلها. وهكذا كانت قراءته صلى الله عليه وسلم في المجامع الكبار، كالأعياد ونحوها، بالسورة المشتملة على التوحيد، والمبدإ والمعاد، وقصصِ الأنبياء مع أممهم، وما عامل اللّه به من كذَّبهم وكفر بهم من الهلاك والشقاء، ومن آمن منهم وصدَّقهم من النجاة والعافية. كما كان يقرأ في العيدين بسورتي (ق و القرآن المجيد)، و (اقتربت الساعةُ وانشقَّ القمرُ)؟ تارة: بـ (سبح اسم ربك الأعلى)، و (هل أتاك حديث الغاشية)، وتارة يقرأ في الجمعة بسورة الجمعة لما تضمَّنت من الأمر بهذه الصلاة، وإيجابِ السَّعي إليها، وتركِ العلم العائق عنها، والأمر بإكثار ذكر الله ليحصُل لهم الفلاحُ في الدارين، فإن في نسيان ذكره تعالى العطبَ والهلاكَ في الدارين، ويقرأ في الثانية بسورة (إذا جاءك المنافقون) تحذيراً للأمة من النفاق المردي، وتحذيراً لهم أن تشغلَهَم أموالهُم وأولادهم عن صلاة الجمعة، وعن ذِكر اللّه، وأنهم إن فعلوا ذلك خسروا ولا بد، وحضاً لههم على الإِنفاق الذي هو من أكبر أسباب سعادتهم، وتحذيراً لهم من هجوم الموت وهم على حالة يطلبون الإِقالة، ويتمنَون الرجعة، ولا يُجابون إليها، وكذلك كان: صلى الله عليه وسلم يفعل عند قدوم وفد يريد أن يُسمعهم القرآن، وكان يُطيل قراءة الصلاة الجهرية لذلك، كما صلَّى المغرب بـ (الأعراف) و بـ (الطور)، و (ق). وكان يُصلي الفجر بنحو مائة آية .
وكذلك كانت خطبته صلى الله عليه وسلم، إنما هي تقرير لأصول الإِيمان من الإِيمان بالله وملائكته، وكتبه، ورسله، ولقائِه، وذكرِ الجنة، والنار، وما أعدَّ الله لأوليائه وأهل طاعته، وما أعدَّ لأعدائه وأهل معصيته، فيملأ القلوب مِن خُطبته إيماناًَ وتوحيداً، ومعرفة باللّه وأيامه، لا كخُطب غيره التي إنما تُفيد أموراً مشتركة بين الخلائق، وهي النَّوح على الحياة، والتخويف بالموت، فإن هذا أمر لا يُحصِّلُ في القلب إيماناً باللّه، ولا توحيداً له، ولا معرفة خاصة به، ولا تذكيراً بأيامه، ولا بعثاً للنفوس على محبته والشوق إلى لقائه، فيخرج السامعون ولم يستفيدوا فائدة، غير أنهم يموتون، وتُقسم أموالهم، ويُبلي الترابُ أجسامهم، فيا ليت شعري أيّ إيمان حصل بهذا؟! وأيِّ توحيد ومعرفة وعلم نافع حصل به؟!.
ومن تأمل خطب النبي صلى الله عليه وسلم، وخطب أصحابه، وجدها كفيلة ببيان الهدى والتوحيد، وذِكر صفات الربِّ جل جلاله، وأصولِ الإيمان الكلية، والدعوة إلى اللّه، وذِكر آلائه تعالى التي تُحبِّبه إلى خلقه وأيامِه التي تخوِّفهم من بأسه، والأمر بذكره وشكره الذي يُحبِّبهم إليه، فيذكرون مِن عظمة اللّه وصفاته وأسمائه، ما يُحبِّبه إلى خلقه، ويأمرون من طاعته وشكره، وذِكره ما يُحبِّبهم إليه، فينصرف السامعون وقد أحبوه وأحبهم، ثم طال العهد، وخفي نور النبوة، وصارت الشرائعُ والأوامرُ رسوماً تُقام من غير مراعاة حقائقها ومقاصدها، فأعطَوْها صورها، وزيّنوها بما زينوها به فجعلوا الرسوم والأوضاع سنناً لا ينبغي الإخلالُ بها، وأخلُّوا بالمقاصد التي لا ينبغي الإِخلال بها، فرصعوا الخُطب بالتسَجيع والفِقر، وعلم البديع، فَنقَص بل عَدمَ حظُ القلوب منها، وفات المقصود بها.
فمما حفظ من خطبته صلى الله عليه وسلم أنه كان يكثر أن يخطُب بالقرآن وسورة (ق). قالت أم هشام بنت الحارث بن النعمان: ما حفظت (ق) إلا منْ في رسول اللّه صلى الله عليه وسلم مما يخطب بها أعى المنبر.
وحُفظ من خطبته صلى الله عليه وسلم، من رواية علي بن زيد بن جدعان وفيها ضعف، ((يا أيُّها الناسُ توبوا إلى اللّه عز وجل قبل أن تَموتوا، وبادِرُوا بالأعمال الصالحة قَبل أَن تُشغَلوا، وصِلوا الَّذي بينكم وبين ربَكم بكثرة ذِكركم له، وكثرةِ الصدقة في السرِّ والعلانية تُؤجروا، وتحمَدوا، وتُرزقوا. واعلموا أن الله عز وجل، قد فرض عليكم الجمعةَ فريضةَ مكتوبةَ في مقامي هذا، في شهري هذا، في عَامي هَذَا، إِلى يَوْمِ القِيامَةِ، مَنْ وَجَدَ إليها سَبِيلاً، فَمَن تَركَهَا في حياتي، أو بعد مماتي جحوداً بها، أو استخفافاً بها، وله إمامٌ جائر أو عادِل، فلا جمع اللّه شملَه، ولا بارَك له في أمره، ألا ولا صَلاة له، ألا ولا وضوءَ له، ألا ولا صَومَ له، ألا ولا زَكَاةَ له، ألا ولا حجَ له، ألا ولا بَرَكَة له حتى يتوبَ، فإن تابَ، تابَ اللَّهُ عليه، ألا ولا تَؤُمَنَّ امْرَأَةٌ رَجُلاً، ألا ولا يَؤُمَنَّ أعرابي مُهاجِراً، ألا ولا يَؤمَنَّ فَاجرٌ مُؤمنَاً، إلا أن يَقهَرَهُ سلطَانٌ فَيخَافَ سَيْفَه وسَوطَه)).
وحفظ مِن خطبته أيضاً: ((الحمدُ لِله نستعينُه، ونستغفرُه، ونعوذُ باللّه مِنْ شُرورِ أنفسنا، مَنْ يَهْدِ اللّه، فلا مضلَّ له، ومن يضلِل فَلا هادي له، وأشهدُ أَلاَّ إله إلا اللّهُ وحدَه لا شَريكَ لَهُ، وأشهدُ أن مُحمداً عبده ورسولُه، أرسله بالحقِّ بشيراً ونذيراً بَيْنَ يَدَي السَّاعَةِ، مَنْ يُطعِ اللَّهَ وَرَسُولَه، فَقَد رَشَدَ ومن يَعْصِهِمَا، فإنه لا يَضُرُّ إلا نَفْسَة، ولا يَضُرُّ اللّه شيئا)). رواه أبو داود وسيأتي إن شاء اللّه تعالى ذِكر خطبه في الحج. >> ـ انتهى من كلام ابن القيم عليه رحمة الله ـ