حول تصريحات الوالي العام ـ ـ لمُكاتب ألبتي باريزيان

طباعة
تقييم المستخدمين: / 0
سيئجيد 

        نشرنا في العدد الحادي عشر نصّ هذه التّصريحات ونشرنا احتجاج مجلس إدارة جمعيّة العلماء المسلمين الجزائريين عليها , ثمّ رأينا من واجب جريدة الجمعيّة أن تقوم بواجبها في التّعليق على تلك التّصريحات ومُناقشتها فإنّ لتلك التّصريحات من القيمة بقدر ما لجناب المُصرّح بها من المنزلة ولا نكون قدّرنا تلك القيمة وعرفنا تلك المنزلة إذا نحن سكتنا عنها .

        قال جناب الوالي العام : << إنّ الحوادث الدّينيّة التي حدثت أخيرا كان المُتسبّب في وُقوعها أو على الأقلّ المُستغلّ لما نشأ عنها من منافع سيّاسيّة أناس ليست لهم عقيدة راسخة ومنهم فريق لا ديني وأكثرهم غير عاملين بما أتى به الدّين >> فقد قرّر الحقيقة لمّا جعل الحوادث دينيّة فمثار كلّ ما كان هو تدخّل الإدارة في شؤون الدّين تدخّلا شاذا مُخالفا للدّين نفسه ولقانون فصل الدّيانة عن الحكومة وأمّا المُتسبّب في وُقوع ذلك فهو عامل عمالة الجزائر بقراره المشئوم المشهور ثمّ تقرير الإدارة العليا لذلك القرار وإبايتها من سماع من قُصد اتّهامها من نوّاب العاصمة بعد إبايتها من مُقابلتهم إلاّ من وراء وراء ولا شكّ أنّ شعور جنابه بهذه الحقيقة جعله يقول : << أو على الأقلّ المُستغلّ لما نشأ عنها من منافع سيّاسيّة >> وأيّة منافع جناها نُوّاب العاصمة من تلك الحوادث أكثر من أنّهم قاموا بما تفرضه عليهم النّيابة فإذا كان من يقوم بواجبه يُرمى بأنّه يستغلّ ذلك الواجب فلا عار من هذا ولا مسبّة فيه وحسبنا من كلّ من نيط بعُهدته واجب أن يقوم به ولا حق لنا أن نقول له غير أحسنت لقيامك بواجبك .

        وصَفَ جنابه الذين قاموا بواجبهم بأنّهم << أناس ليست لهم عقيدة راسخة ومنهم فريق لا ديني وأكثرهم غير عاملين بما أتى به القرآن >> أنسيَ جنابه الآلاف المُؤلّفة من العامّة الجزائريّة المُسلمة التي أظهرت استياءها بما قالت وبما فعلت وبما كتبت وهي أمّة دينيّة مُسّت في أمر ديني بحت فقامت مُحتجّة مُستنكرة فلو لم يقم هؤلاء الذين وصفهم جنابه بما وصفهم لكان قيام تلك الآلاف كافيا , وأنا لا أحبّ أن أناقش جنابه في منزلة أولئك النّوّاب من الدّين وحسبي منهم أنّهم مُسلمون يعيشون عيشة المُسلمين ويحملون شعارهم ويألمون آلامهم ويحملون عبء القوانين الاستثنائيّة مثلهم غير أنّني أذكّر جنابه في الحقيقة النّفيسة وهي أنّ العقيدة الموروثة لا بُدّ أن تثور بصاحبها للدّفاع عنها عند مسّها , خصوصا إذا كان وسط المُشاركين له فيها , تُؤثّر العقيدة في صاحبها هذا التّأثير للدّفاع عنها عند الشدّة وإن لم تُؤثّر فيه ما تقتضيه من إعانة وقت الرّخاء , فأولئك النّواب وإن لم يقوموا بجميع ما تقتضيه العقيدة ــ نُزولا عند قول جنابه ــ فإنّهم ما اندفعوا ــ زيادة على القيام بالواجب ــ للعمل إلاّ بها .

        ثمّ تصدّى جنابه لجمعيّة العلماء المسلمين الجزائريين فقال : << وهؤلاء السّياسيون تمكّنوا من صدّ العلماء عن أعمالهم الطّبيعيّة ومن إدخالهم في ميدان عمل خارج عن دائرة التّعليم والتّهذيب القرآني , لا , لا بل الذي صدّ العلماء عن أعمالهم الطّبيعيّة وعن التعليم والتّهذيب القرآني هو السّلطة التي أوصدت المساجد في وجه وعظهم وإرشادهم , وحالت بينهم وبين عامّة إخوانهم وأغلقت كثيرا من المكاتب الابتدائيّة العربيّة التي يقوم بالتّعليم بها في جهات عديدة أفراد منهم وأمسكت عن إعطاء الرّخص لفتح المكاتب , هذا هو الذي صدّ العلماء عن القيام بواجبهم وأمّا السّياسيون فإنّهم ما حاولوا إدخال العلماء في السّياسة وما كان العلماء ــ وقد نصّبوا أنفسهم لشيء ــ أن يتداخلوا في شيء آخر , وقد أوقفوا وُفودهم العلميّة في الصّائفة الماضية عن التّنقل في جهات القطر تجنّبا لكلّ رمي بالباطل ومع ذلك لم يسلموا ــ مع الأسف ــ من مثل هذا القيل .

        وبعدُ فإنّنا اخترنا الخطّة الدّينيّة على غيرها عن علم وبصيرة وتمسّكا بما هو مُناسب لفطرتنا وتربيتنا من النّصح والإرشاد وبثّ الخير والثّبات على وجه واحد والسّير في خطّ مُستقيم , وما كنّا لنجد هذا كلّه إلاّ فيما تفرّغنا له من خدمة العلم والدّين , وفي خدمتهما أعظم خدمة وأنفعها للإنسانيّة عامّة , ولو أردنا أن ندخل الميدان السّياسي لدخلناه جهرا ولضربنا فيه المثل بما عُرف عنّا من ثباتنا وتضحيتنا ولعدنا الأمّة كلّها للمُطالبة بحقوقها ولكان أسهل شيء علينا أن نسير بها إلى ما نرسمه لها وأن تبلغ من نفوسنا إلى أقصى غايات التّأثير عليها فإنّ ممّا نعلمه ولا يخفى على غيرنا أنّ القائد الذي يقول للأمّة ( إنّك مظلومة في حقوقك وإنّني أريد إيصالك إليها ) يجد منها ما لا يجد من يقول لها ( إنّك ضالّة عن أصول دينك وإنّني أريد هدايتك ) فذلك تُلبّيه كلّها وهذا يُقاومه مُعظمها أو شطرها وهذا كلّه نعلمه ولكنّنا اخترنا ما اخترنا لما ذكرنا وبيّنّا وإنّنا فيما اخترناه ــ بإذن الله ــ لماضون وعليه مُتوكّلون .

        ثمّ ما هذا العيب الذي يُعاب به العلماء المُسلمون إذا شاركوا في السّياسة ؟ فهل خلت المجالس النّيابيّة الكُبرى والصّغرى من رجال الدّيانات الأخرى وهل كانت الأكاديميّة الفرنسيّة من آثار الوزير القسيس رشليو  أ فيجوز الشّيء ويحسن إذا كان من هنالك ويحرم ويقبح إذا كان من هُنا . . . ؟ كلاّ , لا عيب ولا ملامة وإنّما لكلّ امرئ ما اختار ويُمدح ويُذمّ على حسب سلوكه في اختياره .     

        أمّا قول جنابه : << وأنّ غالب هؤلاء العلماء تعلّموا في مساجد القاهرة حيث الإسلام لا تدرس مبادئه وتعاليمه الدّينيّة فقط >> فهو مُخالف للواقع فإنّ العلماء الذين يعنيهم جنابه لم يتعلّم واحد منهم في مصر والشّخص الوحيد الذي تعلّم في القاهرة وكان معهم قد انقلب انقلابا قبيحا وهو مرضيّ عنه تمام الرّضاء .

        فالمسألة مسألة جهود وتفكير ونهوض مع النّاهضين وموت مع الأموات ليست مسألة القاهرة ولا غيرها وليس بصحيح أنّ مساجد القاهرة يُدرّس فيها ما ليس من الدّين وما دروسها ودُروس جامع الزّيتونة وجامع القرويين ودُروسنا بقسنطينة إلاّ واحدة كلّها ترمي إلى المحافظة على علم الإسلام والعربيّة ونشر العلم والتّهذيب بين طبقات النّاس وما هذا إلاّ أصل المدنيّة التي تدعوا إليها الأمم الرّاقية في هذا العصر .

        وكأنّ جنابه أراد أن يُخفّف من عبء مسئوليّة منع العلماء من إلقاء الوعظ والإرشاد في بيوت الله التي ما أسّست إلاّ لذكر الله فقال :<< وعلى كلّ حال فإنّنا لم نمنعهم من الكلام في الأماكن المدنيّة أو الدّينيّة غير الدّوليّة >> ونحن نحتفظ بهذا التّصريح بعدم المنع ممّا ذكر ثمّ يقول أنّ الأماكن الدّينيّة التي سمّاها جنابه دوليّة هي المساجد الإسلاميّة العامّة التي يأتيها النّاس المقصودُ تهذيبهم وإرشادهم وهي التي تُناسبها دروس العلماء الدّينيّة ومواعظهم فأمّا الأماكن المدنيّة فليست ممّا يُناسبهم ولا ممّا أعدّ لهم وأمّا الأماكن الدّينيّة غير الدّوليّة ويعني المساجد الخاصّة فهذه على قلّتها لا تكفي عموم النّاس فالحق أنّ منع العلماء من المساجد العامّة منع لهم من القيام بمُهمّتهم الدّينيّة على أتمّ وُجوه المنع الذي لا يُخففه وجه من وُجوه الاعتذار .

        هذا وإنّنا مع كلّ احترامنا لجنابه ما نزال نُكرّر احتجاجنا على منعنا من المساجد وكلّ ما نُرمي به عن غير تبصّر , غير آيسين من إتيان يوم تتجلّى فيه العدالة لجمعيّة دينيّة علميّة تهذيبيّة تعمل لخير الجميع .

عن جمعيّة العلماء المسلمين الجزائريين , الرّئيس : عبد الحميد بن باديس (الصّراط السّوي العدد الخامس عشر).