إلى زيارة سيدي عابد

إرسال إلى صديق طباعة PDF
تقييم المستخدمين: / 5
سيئجيد 

      إلى << زيارة سيدي عابد ! >> ـ[1]ـ

أحاديثنا في القطار

بقلم الأستاذ الزّاهري العضو الإداري لجمعيّة العلماء المُسلمين الجزائريين

        << من ألزم ما يلزمنا ــ ونح نعالج حياتنا العلميّة المشرفة على الخطر ــ أن نُشخّص أمراضنا السّارية فينا تشخيصا تاما يُصيّرها مُشاهدة لكلّ أحد ليتأتّى لنا أن نعالجها ونتعاون على مُقاومتها . وهذا المقال التّالي ممّا كُتِب لأجل هذا التّشخيص فعسى رجال الأمّة من أهل العلم والعمل والغيرة وكلّ ذي قُدرة على العمل أن يقوموا كلّهم بجميع أصنافهم لمُقاومة ما يُتلى عليهم من هذا وما تسبّب عنه هذا الدّاء وعلى الله الشّفاء >> :

        كنّا في عربة واحدة من القطار الذي يقلّنا إلى ( سيدي عابد ) وكانوا في الحظيرة التي وراءنا يتحادثون ويتحاورون , ولكنّي لم أكن أسمع ما يدور بينهم في المحاورة والحديث , فقد كانت عربات القطار ودواليبه تُحدث ضجيجا هائلا شديدا يحول بين السّامع وبين محدّثه الذي يليه , ولقد تضايقوا بهذا الضّجيج وضجروا منه إذ منعهم أن يسمع بعضهم بعضا فجعل المُتكلّمون منهم يرفعون أصواتهم , ويُعيدون الجمل والعبارات , وجعل السّامعون يستعيدونها منهم المرّة والمرّتين والثّلاث مرّات , فاسترعوا بذلك أسماع المُسافرين الذين يركبون هذه العربة التي نحن نركبها فتركوا حظائرهم وأقبلوا على أصحابنا يستمعون لهم ويشتركون معهم في المُحاورة والحديث , ووثب رفقائي أيضا إلى هؤلاء فلم أجد بُدّا من أن أقترب منهم أنا الآخر كي أستمع لما يقولون , وأطللت عليهم برأسي فإذا فتًى فوق الخامسة والعشرين من عمره ولكنّه لا يزال دون الثّلاثين , قد نشر على رُكبتيه نُسخة من جريدة يوميّة كُبرى تصدر بالفرنسويّة في مدينه وهران , وهو ينكت بسبابته اليُمنى على صورة شمسيّة فيها لامرأة فانية عجوز , قد أكل الدّهر عليها وشرب , وكان مُتأثّرا مُنفعلا , وكان يقول لهم بصوت فيه شيء كثير من الحزم والقنوط ما معناه : . . . إنّها لم تكن شيئا مذكورا , فقد كانت خادمة بفندق من فنادق مدينة بوردو ( فرنسا ) وكان أبوها دركيا بسيطا ( عون جندرمة ) وهُنالك في ردهة من ردهات الفندق رآها سيّدي , . . . , شيخ الطّريقة , . . . , فأعجب بها ووقعت من نفسه موقعا حسنا فتعرّف إليها , ثمّ رجع بها إلى الجزائر وأراد أن يتزّوج بها فلم يُوافق الوالي العام للجزائر يومئذ على هذا الزّواج , ولكن الكاردينال لافيجري رأى أنّ هذا الزّواج من مصلحة المسيح , وممّا يجعل من مسألة تنصير المُسلمين في الجزائر من أسهل الأمور وأيسرها , ولا سيما في بلاد الصّحراء حيث يعظم نفوذ هذه << الزّاوية >> التي ستتزوّج هذه الفتاة من رئيسها , ثمّ عقد لشيخ الطّريقة على هذه الفرنسيّة عقدة النّكاح في الكنيسة الكبرى , وبارك على العروسين بعد إجراء ما يجب إجراؤه من الطّقوس والتّقاليد , وكان ذلك في سنة 1870 , ولعلّ هذا الشّيخ كان أوّل عربي مُسلم ( في الجزائر ) تزوّج بأجنبيّة وهي بعدما كانت خادمة في فندق صارت ــ بفضل هذا الزّوج ويُمنه ــ تُدعى << أميرة الرّمال >> ولقد قضت منذ زواجها إلى الآن ثلاثا وستّين سنة بين العرب المُسلمين يُحوطونها بكلّ تجلة واحترام , ومع ذلك فقد بقيت إلى آخر لحظة من حياتها مسيحيّة على مذهب الكاثوليك أشدّ ما تكون تمسّكا بدينها ونصرانيتها , وكانت تعطف العطف كلّه على المُضلّلين المسيحيين فمدّت لهم يد المُساعدة وكتبت باسم زوجها شيخ الطّريقة كثيرا من الرّسائل إلى ( مقاديم ) هذه الطّريقة وأعيانها توصيهم خيرا بهؤلاء المُضلّلين , وتأمرهم أن يكونوا لهم أعوانا وأنصارا على كلّ ما يُريدون , فاستطاع المُضلّلون ــ لذلك ــ أن يُشيّدوا في كلّ ناحيّة من أنحاء هذه البلاد ( ولا سيما في الصّحراء ) كنائس كثيرة , ومراكز كُبرى للتّضليل والتّنصير , ولعلّك تعجب إذا قلت لك أنّ أكثر هذه الكنائس والمراكز التي بناها المُضلّلون لتنصير أطفال المسلمين وضعفاءهم إنّما بناها المُسلمون أتباع هذه الطّريقة بأموالهم وبعرق جبينهم , فقد كانت هذه المرأة تأمر ( باسم زوجها ) القبيلة الفلانية مثلا بأن تقدّم إلى الأب الأبيض الفلاني كذا وكذا من المال يكتتبون بها فيما بينهم على المُعسر قدره  وعلى المُقتر قدره فريضة من الزّاوية لا فريضة من الله , ثمّ تأمر هذه القبيلة باسم زوجها أيضا بأن ترسل إلى هذا الآب نفسه من شبّانها وفتيانها كذا وكذا عاملا يعملون له ما يشاء , وكذا وكذا بغلة أو حمارا لتحويل الحجر ومواد البناء وتشترط على هؤلاء العملة أن يتزوّدوا بما يكفيهم من الزّاد والقوت , وبما يكفي دوابهم من العلف حتّى يرجعوا إلى أهليهم , وكثيرا ما تعاون هذه السّيدة بمبلغ ضخم من مال الزّاوية نفسها , وإذا أنت طالعت كتابها الذي اسمه : << أميرة الرّمال >> وهي تعني بهذا اللّقب نفسها , علمت أنّها قد استغلّت لفائدة التّضليل والتّنصير نفوذ هذه الزّاوية إلى أقصى ما يُمكن من الاستغلال , وعلمت أنّها قد قامت خير قيام بالمهمّة التّبشيرية التي ناطها بعهدتها الكاردينال لا فيجري مُؤسّس إرساليات الآباء البيض في هذه البلاد , ولقد توفّي زوج هذه السّيدة ومضى إلى رحمة الله , فخلفه عليها وعلى رئاسة الزّاوية أخوه ووليّ العهد من بعده , فبقيت هذه المرأة المسيحيّة مُهيمنة على هذه الطّريقة الصّوفيّة الكبرى تُدير شؤونها , ومُتصرّفة بها تأمر وتنهي , وتفعل ما تشاء وتختار , ولقد سيطرت فيها حتّى على الأمور الإسلاميّة الدّينيّة البحتة , فهي التي كانت تتسلّم كلّ ما يرد إلى الزّاوية في البريد , ولا تُطلع زوجها رئيس الزّاوية من رسائله إلاّ على ما يبدو لها أن تُطلعه عليه , ولقد اتّخذت لنفسها قصرا بعيدا يبعد عن الزّاوية مقرّ زوجها بضعة أميال واتّخذت لنفسها في هذا القصر كلّ ما يلزمها , ولها كاتب خاص يقرأ لها , وتُملي هي عليه أجوبة الرّسائل التي تستحقّ في نظرها الرّد والجواب , وهي التي تُنصّب على أتباع هذه الطّريقة << المقاديم >> : تُؤتي المُلك من تشاء وتنزع الملك ممّن تشاء , وكم عزلت من مقدّم إمّا لأنّه لا يتعصّب للطّريقة تعصّبا أعمى أو لأنّه لا يعاون المضلّلين على حركة التّضليل والتّنصير وكم من مريد ومن مقدّم قد وصلته رسالة أو << إجازة >> مختومة بختم الشّيخ , فهو يحتفظ بها احتفاظا شديدا << ويبخّرها >> في كلّ يوم جُمعة بالبخور ويُطيّبها بالطّيب اعتقادا منه أنها جاءته من سيّده الشّيخ , وما هي من سيّده الشّيخ , ولكنّها من << المدام >> . . . وليت شعري ماذا يصنع هؤلاء << المقاديم >> بالإجازات التي يحملونها , والمريدون بالرّسائل التي يحتفظون بها إذا علموا أنّها زائفة , ولم تجئهم من الشّيخ ؟ فهل يستمرّون على تطييبها وتبخيرها ! ؟ أم يُبادرون إلى تمزيقها أو تحريقها , على أنّي ما أظنّهم إلاّ مُحتفظين بها كما يحتفظون بالنّفائس والأعلاق .

        ومنذ بضعة أشهر كان أحد الصّحفيين الفرنسيين زار هذه السّيدة المسيحيّة في << زاويتها >> وجرى بينه وبينها حديث طويل نشره تباعا في هذه الصّحيفة نفسها ( وأشار إلى الجريدة المنشورة على رُكبتيه ) وممّا قال فيه : << ولمّا هممت بالانصراف من عندها طلبت إليها أن تقف لي لحظة قليلة لكي ألتقط صورتها , فاعتذرت لي بأنّها في لباس مُبتذل لا يُناسب التّصوير , فقلت لها يكفي أن تستري رأسك وعُنقك ببخنق أو بجلباب , فأساءت فهم كلامي , وقالت لي في شيء من الغضب والكبرياء : << لماذا ؟ إنّني فرنسيّة مسيحيّة قبل كلّ شيء , ولم أكن مُسلمة , ولا عربيّة في يوم من أيّام حياتي , فكيف تطلب منّي أن أسدل << النّقاب >> على وجهي , وأحتجب كما تحتجب العربيات المسلمات الجاهلات . . . >> وأغرب ما في هذا الحديث الذي رواه عنها هذا الصّحفي الفرنسي هو قولها له : << إنّي لا آسف إلاّ على شيء واحد فقط وهو أنّي لم أستطع أن أجعل اللّغة الفرنسيّة هي اللّسان الرّسمي لهذه الطّريقة الصّوفيّة الكُبرى فكم تمنّيت أن أكتب بالفرنسيّة كلّ ما يصدر عن الزّاوية من رسائل و<< إجازات التّقديم >> . بل وددت فوق ذلك أن أترجم إلى الفرنسيّة كلّ ما يقرأه أتباع هذه الطّريقة من الأدعية والصّلوات ومن الأوراد والأذكار ! . . .  >> فكأنّها لم تكتف بمطاردة العربيّة من هذه الزّاوية حتّى طمعت أن تترجمها إلى الفرنسيّة , وكأنّها لم يكفها أن استغلّت نُفوذ هذه الطّريقة لفائدة << الآباء البيض >> حتّى طمعت أن تحقّق هذه الأحلام والأماني . . .  قال الفتى : والأمر العجيب هنا هو أنّ هذه السّيدة لمّا أفضت إلى عملها وانتقلت إلى الدّار الباقية في هذا الأسبوع قد أوصت بأن يدفنوها إلى جنب المرحوم زوجها الأوّل , فسأله أحد الحاضرين وقال : وهل عملوا بوصيّتها ؟ قال : نعم , قد دفنوها حيث تُريد , فقال السّائل : وإذا جاء أتباع هذه الطّريقة يزورون قبر هذا الشّيخ , فهل يزورونها هي أيضا ؟ وهي امرأة مسيحيّة على مذهب الكاثوليك ؟ ؟ ؟  فقال له : نعم لقد كانوا يستبقون إلى << زيارتها >> في حياتها , ويلتمسون منها البركة والخير فماذا يمنعهم اليوم أن يزوروا قبرها بعد مماتها ؟

***

        وانتقلوا إلى الحديث عن << الوعدة >> فقال قائل إنّها واجبة لا بدّ منها , وقال آخر إنّها حرام لما فيها من كثرة التّكاليف والنّفقات وقال ثالث هي لا بأس بها , وأكثروا من الكلام فيها , ولكن أعجبني ما قاله الفتى في هذا الموضوع , فقد سمعته يقول لهم : إنّ الوعدة عندنا اليوم هي أن تخبر العشيرة منّا العشائر الأخرى أنّ << وعدتها >> تبتدئ من يوم كذا إلى يوم كذا فإذا جاء اليوم الموعود خرجت العشيرة كلّها نساء ورجالا إلى سّهل من السّهول الفسيحة , وتلحق بها العشائر الأخرى , فينصبون الأخبية والخيام في صفين مُتقابلين بينهما ميدان واسع يركضون فيه الخيول , ويلعبون بالبارود , ترى صاحب << مزمار >> وصاحب << قلال >> هذا << يُزمّر >> والآخر يضرب على << قلاّله >> كما يضربون على الدّفوف وهما يطوفان على أبواب الأخبية والخيام : من خيمة إلى خيمة , ومن خباء إلى خباء , فيُنفحهما أهل المروءة بما يطيبون عنه نفسا , وربّما تنافس النّاس في بذل العطاء إلى هذين ولكنّهم كثيرون جدا في كلّ << وعدة >> , فلا يكاد ينصرف هذان عن هذا الخباء حتّى يقف على بابه هذان الآخران , وهكذا يجيء آخران وآخران و . . . .

        وإذا جنّ عليهم الليل اجتمعوا حول الأخبية وتحت القباب المنصوبة جماعات جماعات , وقد تصدّر كلّ جماعة أحد المغنّين وهم يُسمّونه << الشّيخ >> يُشنف أسماعهم بألحان بدويّة هي غاية في السّذاجة والبساطة , يُحاكي بها سير الحمار أو خبب الجواد , ولكنّي أشهد أنّ هذا الشّعر الملحون الذي يتغنّى به << الشّيخ >> في هذه الألحان البسيطة هو وإن كان في لغة ملحونة فهو موزون بنفس البحور التي يوزن بها الشّعر الفصيح .

        وكلّما جاء وقت الغداء أو العشاء تقدّموا إلى هذه الجموع الغفيرة من النّاس بجفان كالجوابي من الكسكسي , وهم يُسمّونه << الطّعام >> قد علتها طبقة من التّمر والحلوى , ومع كلّ جفنة سلّة عنب وقفّة لحم وإناء كبير فيه سمن كثير , وإذا همّوا بالانصراف لعبوا << الرّحبة >> وهي نوع من البراز وذلك بأن يتجرّد << الرّحاحبي >> من ثيابه إلاّ من فوطة يشدّها في وسطه ثمّ يقول هل من مُبارز ؟ فإن برزه له أحد تجرّد هو الآخر من ثيابه ثمّ يتجاولان ساعة من نهار ثمّ يركل أحدهما الآخر برجله فيتركه طريحا على الأرض أو يحجز بينهما المُتفرّجون , وهما لا يتبارزان إلاّ بالأرجل والأقدام  .

        والغالب أنّ النّساء لا يرقصن في << الوعدة >> سافرات , ولا يختلطن فيها بالرّجال ما عدا وعدة وهران ووعدة أخرى يختلط فيها الحابل بالنّابل , ويُركب فيها حال على حال .

        وقد كثرت ( الوعدات ) كثرة فاحشة فلكلّ عشيرة ( وعدة ) ولكلّ حيّ ( وعدة ) ولكلّ ربوة أو جبل ( وعدة ) ولكلّ واد ( وعدة ) ولكلّ وليّ ( وعدة ) ولشيخ الحلول ( وعدة ) . والنّاس يحترمون هذه ( الوعدات ) احتراما كثيرا ومنهم من لا يقيمون الصّلاة ولا يأتون الزّكاة ولا يُحرّمون ما حرّم الله ولكنّهم يحرصون على إقامة ( الوعدة ) كما يحرص المؤمنون المتّقون على أركان هذا الدّين الحنيف .

        وهم إذا أقاموا << وعدة >> ارتاحت ضمائرهم واطمأنّت نفوسهم وظنّوا أنّهم قد أدّوا كلّ ما هو لله عليهم من الحقوق والواجبات .

        وأصل << الوعدة >> في التّاريخ أنّ فتيان العرب كانوا إذا خرجوا إلى الصّيد جعلوا فيما بينهم موعدا مكانا سوى يجتمعون إليه في يوم مُعيّن , ثمّ انتشروا يطلبون الصيد في بطون الأودية والشّعاب وفي المغاور والكهوف وعلى رؤوس الجبال وفي كلّ مكان يكون فيه الوحوش والطّير فإذا كان اليوم الموعود اجتمعوا في المكان المعيّن , ووجدوا أنّ عشيرتهم كلّها نساء ورجالا قد سبقتهم إلى الموعد وضربوا القباب ونصبوا الخيام وصنعوا << الطّعام >> وطبخوا من لحوم الصّيد , فأكلوا وشربوا ثمّ ركبوا الصّافنات الجياد , فلعبوا ما شاءوا وأتوا من أعمال الفروسيّة والشّهامة ما أرادوا وربّما أثاروا غزالا نافرا وأغروا به سلوقيا أو عقابا أو غلاما حديث عهد بركوب الخيل حتّى قضوا هنالك يوما وليلة أو قضوا ليالي وأيّاما رجعوا إلى ديارهم . وتلك هي << الوعدة >> في الزّمن القديم ولكنّها تطوّرت بتطوّر الزّمن وتُنُوسِيَ الصّيد , وصارت إلى ما ترون , وما كانت الوعدة لتقام باسم << الولي >> الفلاني أو تقرّبا إليه , كما تُقام كثير من ( الوعدات ) في هذا العهد الأخير , ولكن ربّما مات أحد الصّيادين أو الفرسان في اليوم الموعود فدفنوه حيث مات , ثمّ بنوا عليه << قبرا >> يُزار , ثمّ صاروا يُقيمون << الوعدة >> باسمه وتقرّبا إليه .

***

        وما انتهى من حديثه إلى هنا حتّى استولى على سائر الحاضرين الإعجاب الشّديد بهذا الفتى , وبما وهبه الله من الرّأي الصّائب , والقول السّديد .

وهران                                                                               محمّد السّعيد الزّاهري

 

 

 

 

إلى << زيارة سيدي عابد >> ! ـ [2] ـ

أحاديثنا في القطار

بقلم الأستاذ الزّاهري العضو الإداري لجمعيّة العلماء المُسلمين الجزائريين

ــ 2 ــ

        فاتني أن أسمع منه أوّل الكلام , ولكنّي سمعته يقول لهم :

        وكان الشّيخ البُرعي رحمه الله يجتمع بالنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقظة لا مناما وهو حينما خاطبه صلّى الله عليه وسلّم بقوله : << . . . فامدد يمينك كي تحظى بها شفتي >> أخرج صلّى الله عليه وسلّم من القبر يده الشّريفة , وناوله إيّاها , فتهافت البُرعي عليها لثما وتقبيلا , كلّ ذلك والحجّاج ينظرون ( ! ) . والشّيخ البُويصري رحمه الله كان عزم ذات يوم أن << يزور >> القبر النّبوي الشّريف , فجاءه الرّسول صلّى الله عليه وسلّم يقظة لا مناما , وقال له : يا حبيبي يا بُويصري اترك عنك << زيارتي >> فإنّك إن جئتني << زائرا >> لم يسعني إلاّ أن أخرج من قبري جهارا نهارا لاستقبالك وللتّرحيب بقدومك , ويومئذ تُبدّل الأرض غير الأرض والسّماوات . . . قال : فعدل الشّيخ البُويصري عن << زيارة >> القبر الشّريف أخذا بخاطره عليه الصّلاة والسّلام , وسيدي فلان قال : ــ وقوله الحق ــ ( ! ) ــ : لو فارقني حبيبي رسول الله طرفة عين لما عددت نفسي مُؤمنا , وقال : وكنت في شبابي وكهولتي قد أقمت بين أهلي في قصر الشّلالّة فكان حبيبي رسول الله << يزورني >> فيها المرّة بعد المرّة , ( ويختلف ) إلي من حين إلى حين , وقد بلغ من عنايته عليه الصّلاة والسّلام بسيّدي فلان ( وذكر اسم أحد الأشياخ الصّوفيّة المشهورين ) أنّه كان لمّا أراد أن يتوضّأ للصّلاة أو همّ بدخول الحمّام جاءه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقظة لا مناما , وناوله بيده الشّريفة الماء و<< القباب >> ! . . . 

        وهنا انبرى له من الحاضرين رجل على وجهه علامات العلم والدّين , فقال له ــ وهو يكاد يتميّز من الغيظ ــ : يا هذا , أليس فيك بقيّة من الخجل والحياء ؟ . . إنّك تزعم أنّ الحجّاج قد شاهدوا عيانا أنّه صلّى الله عليه وسلّم قد مدّ يده الشّريفة من القبر إلى الشّيخ البُرعي الذي تهافت عليها ــ وحده ! ــ يلثمها ويُقبّلها , وهُم ( الحُجّاج ) ينظرون دون أن يتسابقوا هم أيضا إلى لثمها وتقبيلها , كأنّ هؤلاء الحجّاج الذين جاءوا من أقاصي البلاد << يزورون >> قبر المُصطفى ليس عندهم من الحبّ لرسول الله والوجد به , وكأنّهم لا يحملون بين جوانبهم من الشّوق إليه مثل ما هو عند الشّيخ البُرعي حتّى لا يُزاحموه على << اليد >> الكريمة يلثمونها ويُقبّلونها .

        ثمّ زعمت لنا أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد << نهى >> الشّيخ البُويصري يقظة لا مناما عن زيارته وكيف تظنّ أنّه صلّى الله عليه وسلّم ينهى أحدا أن يزور قبره الشّريف ؟

        ثمّ زعمت لنا أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يزور سيدي فلان في الشّلالة المرّة بعد المرّة , فجعلت أنّ رسول الله هو الزّائر وأنّ سيّدي فلان هو المزور , ولو عكست لأصبت شاكلة الصّواب .

        وبعد هذا كلّه جئتنا بداهية الدّواهي فزعمت أنّ سيّد ولد آدم ــ بطمّه وطميمه ــ كان يقوم بخدمة سيّدي فلان ويُناوله بيده الشّريفة الماء والقباب كلّما أراد أن يتوضّأ أو همّ بدخول الحمّام فلم تزد على أن جعلت منزلة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كمنزلة , متشو , من , مُتشوات , الحمّام ! ! !

        ويحك يا هذا الرّجل ! هل تدري ما تقول ؟ وهل هذا هو كلّ ما عندك من المكانة والمنزلة لخاتم النبيين , ولسيّد هذا الوُجود ؟ ؟

        لك أن تُعظّم الأولياء والصّالحين بما يبدو لك من أوجه التّعظيم ولكن بشرط أن لا تُؤذي الله , وأن لا تُؤذي الرّسول صلّى الله عليه وسلّم , فلا تجعل الأولياء شُركاء مع الله ولا تجعل لواحد من الأولياء مقاما أو منزلة فوق منازل الأنبياء والمُرسلين .

        إن كان صحيحا ما يُقال من أنّ فريقا من الأولياء والصّالحين قد رأوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأبصارهم يقظة لا مناما فلا بُدّ أن يكون ذلك على ضرب من التّأويل فيُقال أنّهم تعلّقوا برسول الله , ومُلئت قلوبهم حُبّا له وأفئدتهم وجدا به , وجوانحهم شوقا إليه , فلا يزالون يستحضرونه في أذهانهم ومُخيّلاتهم , ولا تزال ألسنتهم تلهج باسمه الكريم , فربّما ذهل الواحد منهم عن نفسه ذهولا عميقا , ورُبّما غشيته غيبوبة لا يعي معها ممّا حوله شيئا , وهُنالك قد يرى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أو يُخيّل إليه أنّه يراه حتّى إذا انجلت عنه غيبوبته , وسكت عنه ذهوله , ورجع إلى نفسه وثاب إليه وعيُه , ظنّ أنّه رأى بعينيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم , في اليقظة لا في المنام , وقام ذلك في نفسه حتّى لا تستطيع أن تُناقشه فيه , إنّ المسألة ليست من الحقيقة في شيء ولكنّها كلّها خيال في خيال .

        لقد كان الصّحابة رضي الله عنهم أشدّ النّاس حُبّا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم , وأكثرهم به إيمانا وتصديقا , ومع ذلك فلم يُؤثر عن أحدهم أنّه كان يرى في يقظته رسول الله صلّى الله عليه وسلّم , وسيّدتنا فاطمة الزّهراء البتول كانت لوعتها وفجعتها بوفاة أبيها أشدّ مُصابا وأعظم رزءا ممّا يصف الواصفون , ولقد أقامت على تُربته الطّيبة الزّكيّة ستّة أشهر كاملة وهي تبكي وتقول :

ماذا على من شمّ تُربة أحمد   ***   أن لا يشُمّ مدى الزّمان غواليا

صبّت عليّ مصائب لو أنّها   ***   صُبّت  على  الأيّام عُدن لياليا

ومع هذا كلّه فليس في النّاس من أحد يزعم أنّها كانت , رضي الله تعالى عنها , ترى أباها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في يقظتها لا في منامها .

        ويحك يا هذا الرّجل ! فهل تستطيع أن تحكم أنّ سيّدي فلانا وسيّدي فلانا وغيرهما من الأولياء والصّالحين هم خير وأفضل من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم , وأعظم منهم درجة عند الله ؟ أم تقولون على الله ما لا تعلمون ! ! مالكم كيف تحكمون ! !

        فغضب الرّجل الأوّل , وأجاب بلهجة المغيظ المحنق , وقال : هذه عقيدة الشّيخ ابن باديس وإخوانه أعضاء جمعيّة العلماء المُسلمين وأنت فيما أرى قد أخذت عنهم هذا الكلام , فردّ عليه صاحبه وقال : هذا هو الحقّ , وقد بيّنه لنا عُلماؤنا المسلمون جازاهم الله بأفضل ما يجزي به عباده المُتّقين , ولقد احتملوا في بيان الحقّ كثيرا من المكروه والأذى ومن جُملة ذلك ما قُلته أنت بحقّهم الآن , وما كان ينبغي لك أن تذكر العلماء إلاّ بالخير لو أنّك كنت من الذين يعقلون وأنت تلومني على الاقتداء بالشّيخ بن باديس وإخوانه من العلماء العاملين , وأنا ما زال لم يُسعدني الحظّ لأكون لهم تابعا , وبهم مُقتديا , ولكن على فرض أنّني لا أقتدي بهؤلاء العلماء الصّالحين المُصلحين , أفتراني أقتدي بأولئك الجاهلين المُخرّفين وبأولئك الدّجالين النّصّابين الذين يأكلون أموال النّاس بالباطل ويُدلون بها إلى الحُكّام ! ناشدتك الله أما تراهم في هذه الضّائقة الخانقة والأزمة الشّديدة لا يفتئون يستخلصون منّا الضّرائب والنّذور , ولا يفتئون يسألوننا أن نُعطيهم الصّدقات والزّيارات وهم يُقلقلون راحتنا ويحلفون في السّؤال ؟ ؟ ثمّ يحسبون أنّ لهم أن يسألونا وأنّ علينا أن نُؤدّي إليهم ما طلبوا , فريضة من الله , بدعوى أنّهم مُتصوّفة مُتديّنون , ونحن نعتقد أنّ التّصوّف والدّين يبرآن إلى الله من مثل هؤلاء المُتسوّلين الشّحاتين .

        من تصوّف فإنّما يتصوّف لنفسه , وليس واجبا علينا نحن أن نُطعم المُتصوّفين ولا أن نقوم لهم بتسديد ما هم فيه حاجة إليه من أرزاق ونفقات , وإنّي أعتقد أنّ لُقمة واحدة أعطيها جائعا خير عند الله وأعظم أجرا من الصّدقات التي يتصدّق النّاس بها على هؤلاء المُتصوّفين , وكيف يكونون مُتصوّفين وهم قد أهملوا أهمّ رُكن من أركان التّصوّف وهو الزّهد في حُطام الدّنيا , وإنّك لتراهم في كلّ ناحية من نواحي هذه البلاد , يتكفّفون ما في أيدي النّاس , ولتجدنّهم أحرص النّاس على حياة . . . هم يطلبون النّاس المال ويتلهّفون عليه , ولكنّهم لا يطلبون الرّزق الحلال من وجهه الشّريف بل ينصبون الأشراك والأحابيل ويأكلون كلّ ما وقع إليهم فيها سواء كان رزقا حلال أم سُحتا حراما .

        أمّا العلماء المُصلحون الصّالحون فهم يدعوننا إلى الله ويدعوننا إلى الهدى ودين الحقّ , ويهدوننا إلى التي هي أقوم ويهدوننا إلى صراط الله المُستقيم وهم إنّما يعملون ذلك ابتغاء مرضات الله لا يُريدون منّا جزاء ولا شُكورا , فقال له الرّجل : غير أنّ هؤلاء العلماء يبخلون علينا بما عندهم من العلم ولا يشتغلون بنشر العلم بين النّاس ولو أنّهم اقتصروا على هذا الأمر لكان خيرا لهم ولهذا الشّعب من هذه الضّجّة التي أثاروها حول الضّالين المُضلّين من أصحاب البدع والخرافات , فقال له صاحبه : إنّهم قد فعلوا , قال : وكيف ذلك ؟ قال : أليس هذا الذي تُسمّيه ضجّة حول الضّالين المُضلّين هو من مُقاومة المبتدعة ومن مُحاربة الأمراض الخُلُقيّة ومن مُحاربة آفّات الاجتماع ؟ قال بلى صدقت هو كذلك , قال : ومُقاومة البدع والآفات أليست هي من الأمر بالمعروف والنّهي عن المُنكر ؟ قال بلى صدقت هي كذلك , قال : والأمر بالمعروف والنّهي عن المُنكر أليس هو من أركان هذا الدّين الإسلامي ؟ قال : بلى , قال : فاشهد إذن أنّ علماءنا إنّما قاموا بواجبهم الدّيني وإنّي أضرب لك مثالا تفهم به ما نقول , قال : وما هو ؟ قال : لنفرض أنّك تملك قصرا بديعا مُؤثّثا على أحدث طراز بأفخر الأثاث والرياش وبينما أنت تتهيّأ لكي تبني إلى جانبه قصرا آخر بديعا وتُعدّ له اللّوازم والمُعدّات إذ شبّت النّار في قصرك البديع وبدأت تأكله وتأكل ما فيه من رياش وأثاث , لنفرض أنّك كنت في مثل هذه الحال وفي مثل هذه الظّروف فما هو واجبك ؟ وماذا تصنع ؟ هل تشرع في البناء والتّشييد أم تشرع من فورك في إطفاء الحريق ؟ قال : بل أبادر إلى إطفاء الحريق , قال : ذلك مثل علمائنا المُصلحين قد بادروا إلى إزالة هذه المنكرات والمُحدثات التي بدأت تأكل هذا الدّين القيّم الحنيف وهم بذلك ينشرون العلم الصّحيح بين النّاس ويدعونهم إلى البيّنات والهدى ولا تظنّ أنّ هذه المُهمّة العُظمى التي يقوم بها علماؤنا هي ليست من باب نشر العلم بل هي من باب نشر العلم , وقد كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يدعو إلى الله على بصيرة ويُقاوم الشّرك والضّلال وينشر العلم والحق , وكان من طريقته صلّى الله عليه وسلّم في الإرشاد تسفيه أحلام المُشركين وبيان ما هم عليه من الضّلالة والغيّ وهو صلّى الله عليه وسلّم خير من نشر العلم بين النّاس , ولنشر العلم أساليب كثيرة وطُرق شتّى وإذا كان عُلماؤنا قد بدأوا بنشر العلم بين الكبار بالخطب والمُحاضرات والدّروس أو بما نشروا في الصّحف والمجلاّت من المقالات والفصول فإنّ لهم في ذلك أسوة برسول الله صلّى الله عليه وسلّم على أنّ عُلماءنا مُشتغلون الآن وقبل الآن بنشر العلم على الطّريقة التي أنت تُريدها , وإذا أنت قد استعبت هؤلاء المُصلحين فما أنت بواجد أحدا سواهم ينشر العلم في هذه البلاد , وهذا الأستاذ الشّيخ عبد الحميد بن باديس مثلا وهو من أبناء الثّروة والنّعيم , وفي مُتناول يده أن يُمضي حياته في غاية الرّفاهية والعيش الرّخيم , قد زهد في ذلك كلّه , وتصدّى لنشر المعارف والعلوم في هذه البلاد , ولقد مضى عليه اثنتان وعشرون سنة قضاها كلّها في إعلاء كلمة الله وحسبك أنّه قد حرم نفسه طائعا مُختارا كلّ ما تتطلّبه الفتوّة والشّباب من زهرة الحياة الدّنيا , كلّ ذلك قد تركه لله , وفي سبيل الله , وهذه النّهضة العلميّة التي قد شملت الجزائر كلّها إنّما يرجع أكبر الفضل فيها إليه , ثمّ إلى تلامذته ومُريديه .

        ثمّ سرد بعض أسماء المُصلحين الذين يشتغلون اليوم بنشر العلم بين النّاس في هذه البلاد , ثمّ قال : وكثير غير هؤلاء من رجال العلم والإصلاح قد منعتهم الحكومة من التّدريس والتّعليم , بسبب وشايات ذميمة , وسعايات دنيئة قام بها << الخونة المخذولون >> , ومن المؤسف حقا أنّ هؤلاء ( المخذولين ) لا يستطيعون أن يعملوا عملا صالحا ينفع البلاد , ويُنافسون به المُصلحين , وإنّما هم يُفسدون في الأرض ولا يُصلحون .

        فقال له الرّجل : بقيت لي مسألة واحدة , قال وما هي ؟ قال : قد سلّمنا أنّ للمُصلحين ألف حقّ فيما يدعون إليه وفيما قاموا به من مُحاربة البدع ومُحدثات الأمور . . . ولكن ما بالنا نراهم قد انضمّ إليهم بعض الذين << يُدخّنون >> وبعض الذين يتعاطون الخمر والمُسكرات , وبعض الذين لا عمائم لهم ولا لحى . . . قال له صاحبه وهو يُحاوره : بل إنّ المُصلحين أكثر النّاس لحى  وعمائم , وقد قال شاعرهم يُخاطب خصوم العلم والإصلاح :

<< سبقناكم علما ودينا وإنّنا   ***   لنا السّبق حتّى في اللّحى والعمائم >>

        واستعرض أسماء كثير من المُصلحين وقال هؤلاء كلّهم لهم عمائم ولهم لحى , واستعرض أسماء كثير من أعداء العلم والدّين , وقال : هؤلاء كلّهم ليس لهم عمائم و ليس لهم لحى , على أنّ ميزان الرّجال هنا إنّما هو العلم والعمل الصّالح , ليس هو العمائم واللّحى .

        إن كان بعض الذين << يُدخّنون ويتعاطون الخمور >> قد انضمّوا إلى حزب المُصلحين وليس معنى هذا أنّ هؤلاء قد تعلّموا ( التّدخين والسّكر ) منذ اعتنقوا فكرة الإصلاح , بل هم كانوا مُدمنين على الدّخان والخمر فلمّا انضمّوا إلى المُصلحين تابوا وأصلحوا وحسنت أحوالهم , على أنّ ( المخذولين ) أعداء العلم والإصلاح هم أكثر عربدة وسُكرا , وهنا تكلّم رجل آخر وشهد على نفسه وقال : وأنا شخصيا لم أكن أعرف للخمر مذاقا حتّى اتّصلت بزاوية سيدي فلان فشربت , وشربت كثيرا مع أبناء سادتنا , فلمّا فرّق الدّهر ما بيني وبين تلك الزّاوية لُذت بالمتاب وأصلح الله حالي , . . .

        واستمرّ صاحبنا في الحديث فقال : أردت ذات يوم أن أتناول العشاء في أحد مطاعم الجزائر العاصمة , فجلسنا إلى مائدة كان قد جلس إلى طرفها أحد المسلمين , فتعارفنا وجعلنا نتحادث عن الوظائف الدّينيّة الإسلاميّة , فاستنكر الرّجل كلّ الاستنكار أن يُسمّى في وظيف ديني ــ بغير امتحان ــ من لا كفاءة فيه , واستشهد على هذا العبث بالمساجد فقال : في المدينة الفلانيّة نصّبوا في وظيف الإفتاء رجلا سكّيرا وكيف يقتدي المُسلمون في أمور دينهم بمن ليس له دين , وكانت أمامه على المائدة قنينة ( قرعة ) خمر , فمدّ يده إليها وملأ كأسه فأترعها , ثمّ عبّها عبّا كلّها في نفس واحد وملأها مرّة ثانية حتّى طفحت , وأدناها من فمه وكأنّه قد تفطّن إلى ــــــــ الخلف بين ما يعمل وبين ما يقول , فنحّاها بعيدا عن شفتيه وقال : أنا وإن شربت الخمر قليلا فإنّي لا أطلب من المسلمين أن يُصلّوا ورائي وما أريد أن أكون لهم ( مُفتيا ) ولا ( إماما ) ومتى خرجت من هنا توضّأت وقضيت ما فاتني من الصّلوات , وإنّي مُتوسّل بسيّدي فلان ثمّ ضرب بيده في جيبه وأخرج منه ( سبحة ) غليظة فأمسك بقمعتها وأسدلها أمامنا وقال : هذه هي البيّنة القاطعة على أنّني من << أهل الله الذاكرين >> ! وكان معي رفيق فتبسّم ضاحكا من غلظها >> !

        ثمّ قال صاحبنا : وبيوت الدّعارة والخنى هذه التي بُليت بها بلادنا إنّما يتّجر بالشّرف والعفاف فيها أولئك << المُريدات >> اللاّئي ينتسبن إلى الطّرق الصّوفيّة ويعتقدون بصحّة ما في هذه الطّرق من خرافة وضلال , وربّما أنّ ( أشياخهنّ ) سيغفرون لهنّ كلّ ما ارتكبن من الكبائر والخطيئات .

        وهذه ( الزّيارة ) التي نحن قادمون عليها , هل رأيتموها ؟ قال الرّجل : نعم رأيناها ورأينا ما فيها من انتهاك الأعراض والحُرمات , واقتراف الكبائر والمحرّمات . . . قال باسم من تُقام هذه ( الزّيارة ) ؟ هل يُقيمها علماؤنا المُصلحون أم يُقيمها الدّجاجلة الذين ينتحلون لأنفسهم ( الولاية والصّلاح ) ؟ قال الرّجل : بل يُقيمها الدّجاجلة الذين ينتحلون لأنفسهم ( الولاية والصّلاح ) . قال فاحمد لله على عمل المُصلحين , وسلام على المرسلين والحمد لله ربّ العالمين .

وهران                                                                              محمّد السّعيد الزّاهري

من أقبح العادات وأخزاها :

<< زيارة سيدي عابد ! . . . >> ـ[3]ـ

بقلم الأستاذ الزّاهري العضو الإداري لجمعيّة العلماء المُسلمين الجزائريين

        جعل القطار يسير الهُوينا , ويمشي بنا مشيا وئيدا لأنّا في رخو خضخاض من الأرض لا يحسن عليه السّير السّريع , فكلّما بلغ القطار هذه << المرجة >> غاديا أو رائحا إلاّ وخفض السّائق من سرعته وكبح من جماحه وأحسّ الرّكاب بأنّ سُرعة القطار قد انخفضت كثيرا , فقال قائل منهم : هذه الكرامة , حتّى القطار قد أدركته الخشية , فجعل يسير هذا السّير الخاشع احتراما لسيدي عابد , واعترافا بولايته وصلاحه ( ! ) فقال قائل آخر : وليست هذه هي الكرامة الوحيدة لهذا الولي الصّالح فمن كراماته المشهورة أنّك لا تسمع مُدّة هذه << الزّيارة >> نهيق حمار , ولا صهيل جواد , ومنها أنّ من سرق شيئا صار في يده ثعبانا مهينا أو حيّة تسعى ومن كراماته أنّنا معشر الرّجال نستمتع في أيّام << الزّيارة >> بالأوانس والنّساء الجميلات من ربّات الحجال المقصورات في الخيام نُشاهد فيهنّ الجمال البديع سافرا مُجرّدا دون بُرقع أو حجاب ونتحدّث إليهنّ في مُختلف الأحاديث دون كُلفة ولا احتشام , ونخلو بهنّ في غير ريبة ولا << اشتباه >> على أنّ أحدا لا يمدّ يده إلى امرأة بسوء , وإذا تلاقيا على خطيئة أو إثم << تلاصقا >> إلى الأبد !

        فقال قائل : ولكنّني أنا قد أجريت بنفسي عدّة تجارب من هذا النّوع فوجدت أنّ هذا الاعتقاد باطل غير صحيح وأنّ الحقيقة على خلاف ما يزعمون وما لي حاجة في هذه ( الزّيارة ) إلاّ اغتنام الفُرصة لإتمام هذه التّجاريب ! فقال آخر : وأنا أيضا لا أشهد هذه << الزّيارة >> إلاّ طلبا للصّيد ! ولعلّ جميع هؤلاء << الزّوار >> نساء ورجالا إنّما يجيئون هذه << الزّيارة >> حُبا في الاصطياد ! فقال له أحد الحاضرين : اتق الله يا هذا , ولا تجعل المُصلحين كالمُفسدين , ولا المتقين كالفجار , ففي هؤلاء الزّوار من يحملون بين جوانبهم أحسن << النّيات >> وأطيبها وفيهم العلماء الأعلام الذين قد أتوا << زائرين >> , فقال له صاحبه : ومن هو العالم الذي جاء << زائرا >> ؟ قال : قد رأيت الشّيخ الزّاهري ركب معنا هذه العربة , وعلمت أنّه جاء << زائرا >> وهذه حُجّة على جواز << الزّيارة >> فالشّيخ الزّاهري عالم مشهور ينبغي أن نقلّده ونُقلّد إخوانه من العلماء في أمور ديننا ( وهو إنّما يعتبر التقليد في الزّيارة ) وقديما قيل : ( من قلّد عالما لقي الله سالما ) وما نظنّ أنّ الزّاهري قد جاء بنيّة أخرى إلاّ أن << يزور >> . فقال له صاحبه : الزّاهري ليس حُجّة في هذا الباب , لأنّه من الذين يُنكرون الزّيارة ولا يُبيحونها , وما هو هنا إلاّ بنيّة أن يطّلع على ما يجري وما يكون ثمّ يكتب عن هذه الزّيارة ما لا يسرّ الزّائرين ولا الزّائرات , وبعد فماذا عسى أن يكون الشّيخ ؟ إنّه لم يكن مَلكا كريما ولا نبيا معصوما , فلماذا لا يجوز أن يكون هو الآخر مثلنا من الهُوّاة المُغرمين بالصّيد ؟ ! فقال له الرّجل : لا ينبغي أن نقول مثل هذا القول في رجل ما علمنا عليه إلاّ خيرا , وما علمنا عليه من سوء , وهنا دارت بين الرّجل وصاحبه مُحاورة شديدة عنيفة , فيها فُكاهة لاذعة , وتهكم مرير , وفيها حلاوة وظرف كثير , ولكن هذا المقام يضطرّنا أن نطويها وأن لا نذكرها هنا .

***

        وأطلّ أحد الرّكاب من نافذة القطار , ونادانا : تعالوا فانظروا , فتزاحمنا نحن جميعا على النّوافذ نطلّ منها برؤوسنا , فإذا الأرض تسيل بالسّيارات والعربات المُختلفة والدّراجات والكاميونات والكارويات وبالخيل والبغال والحمير تحمل إلى مكان << الزّيارة >> النّساء والرّجال والأطفال من الزّائرين والزّائرات , فقلت أيّ مكان يتّسع لهذه الخلائق مهما كان واسعا فسيحا , فقال لي رجل كان بجانبي : ما هؤلاء إلاّ شيء قليل جدا بالنّسبة للذين هم الآن في مكان الزّيارة , ففي كلّ ربع ساعة يصل إلى عين كرمان قطار مشحون بالزّوار , فقلت : كم يبلغ عدد هؤلاء الزّوار جميعا ؟ قال : إنّهم يبلغون ثلاثمائة ألف أو يزيدون , فقلت : وكم نسبة النّساء بينهم ؟ قال : إنّهنّ سبعون بالمائة أو أكثر من ذلك بقليل , قلت : وما لي أراهنّ سافرات غير مُحجّبات ؟ قال : لأنّهنّ زائرات , قلت : إنّهنّ ما زلن لم يصلن مكان الزّيارة بعد ؟ قال : قد اعتبرن أنفسهنّ زائرات منذ خرجن من بيوتهنّ .

***

        ونزلنا بمحطّة عين كرمان , ويُسمّونها << وادي ارهيو >> ومع أنّ بينها وبين مكان الزّيارة بضعة أميال فإنّ كثيرا من الزّوار ــ لمّا علموا أنّ مكان الزّيارة قد ضاق بالزّائرين ــ قد اتّخذوا من عين كرمان مكانا للزّيارة , ونصبوا بها الأخبية والخيام , وكانت شوارعها وميادينها تموج موجا بالنّساء والرّجال , وكانوا مُختلطين اختلاطا فاحشا , وقد رأينا حلقا كثيرة كحلق الذكر , فلمّا دنونا منها رأينا النّساء وهنّ سافرات قد جلسن بين الرّجال ورُبّما ترامت امرأة في أحضان رجل أجنبي عنها تلاعبه ويُلاعبها وتُغازله ويُغازلها على مرأى ومسمع من النّاس . . . وفي كلّ حلقة راقصة تثبّ وتميس , وتخطر وتمشي , , وربّما كنّ أكثر من راقصة واحدة وهذه الرّاقصة هي محور هذه الحلقة فإذا هي قد قضت لبانتها من هذه الحلقة ووثبت منها كالغزال النافر إلى حلقة أخرى تبعها أصحاب الحلقة جميعا .

        وأردنا أن نُصلّي الظّهر فقلت لرفيقي وهو الأخ الفاضل السّيد علي سعد الهاشمي ( بوشقور ) هلمّ بنا إلى المسجد , وقمنا نسأل عنه الغادي والرّائح فلم نجد من يدلّنا عليه بل قال لنا أحد النّاس مُتهكّما : إنّكم تركتم المسجد وراءكم في وهران ! وسألنا عنه رجلا من أهل القرية فاستغرب منّا هذا السّؤال .

 وكانت السّيارات التي تقلّ الزّوار إلى مكان الزّيارة كثيرة لا تكاد تحصى , ومع ذلك فإنّنا اضطررنا أن ننتظر قليلا من كثرة الازدحام على السّيارات , والتمسنا مراحا نستريح إليه فلم نجد , لأنّ المقاهي العربيّة كانت غاصّة ملأى بالزّائرين والزّائرات , حتّى لا ترى فيها موضع قدم خاليا , وقصدنا إلى أحد المقاهي الفرنجيّة الكُبرى ظنّا منّا أنّ الزّوار لا يقصدون إلى مثلها , فإذا هي كثير الرّدهات والأبهاء ولكنّها كانت كلّها مُكتظّة بالزّائرين والزّائرات , وبعد لأي شديد وجهد جهيد , انتبذنا مكانا قصيّا إلى مائدة صغيرة في زاوية ضيّقة من زوايا المقهى فجلس صاحبي على شيء يُشبه الكرسي , وما هو به , وجلست أنا على كرسي مُتحطّم قديم قد بلغ من الكبر عتيا وقام على ثلاث قوائم فقط , أمّا القائمة الرّابعة فقد ذهبت بها الأيّام , وكان الدّخان دخان << السّجائر >> قد نشر في جوّ المقهى سحبا كثيفة مُتراكما بعضها فوق بعض , ونادينا صاحب المقهى أن ائتنا بعصير اللّيمون , فهزّ كتفيه استخفافا بما طلبنا , وكان يظنّ أنّنا نشرب جرّة كبيرة من جرار الجعة ( البيرة ) كسائر الزّوار فيتمتع هو بثمنها , ومضى , ولم يكد يصل إلى المصطبة ( الكونتوار ) حتّى غاب عن أبصارنا في ضباب الدّخان المتصاعد من سائر الأفواه , وبعد عشرين دقيقة جاءنا بعصير اللّيمون وقال لنا أيّ نوع من أنواع الدّخان تريدون ؟ قلنا إنّنا لا نتعاطى التّدخين , فزاد استخفافه بنا , وكان قد جلس إلى كلّ مائدة جماعة من الزّوار ذكورا وإناثا يتبارون في شرب الخمور ويتنافسون , وكانت المرأة تغنّي والرّجل ينفخ << قصبته >> أو مزماره والباقي يصيحون ويُصفقون ويُمعنون في العربدة والعبث , وربّما رأينا بأعيننا رجلا قد تهافت على امرأة وسط الجماعة يُغازلها ويغمرها عضا وتقبيلا , وقمت أنا إلى حديقة المقهى لعلّي أرى مكانا نجلس إليه فإذا الحديقة أكثر امتلاء بالشّاربين والشّاربات وإذا الحالة فيها على غرار الحالة في المقهى .

وهران                                                                                  محمّد السّعيد الزّاهري

 

 

 

 

 

<< زيارة سيدي عابد >> ـ[4]ـ

( معرض عظيم للخزي والفضيحة إباحيّة تامّة في الأعراض والحُرُمات كلّ ذلك تقرّبا إلى الله وطاعة للأولياء ـ مليار من الفرنكات يذهب كلّ عام في الدّعوات هباء منثورا )  ـ 4 ـ

بقلم الأستاذ الزّاهري العضو الإداري لجمعيّة العلماء المُسلمين الجزائريين

        . . . وركبنا إلى << الزّيارة >> إحدى السّيارات العموميّة الكبرى , ولم تكد تتحرّك بنا حتّى استوقفنا جُنديان اثنان من رجال الدّرك ( الجندرمة ) فدفع إليهما صاحبهما خمسين فرنكا , ودفعا إليه هما بدورهما وصلا بهذا المبلغ , وكلّ سيّارة تقلّ الرّكاب من عين كرمان إلى مكان الزّيارة لا بدّ لها أن تُؤدّي خمسين فرنكا ضريبة لبلديّة عين كرمان , ومع هذا فأهالي هذه البلدة لا يزالون يُعانون من جباة الضّرائب كلّ عنت وإرهاق .

        وتراءى أمامنا سهل فسيح مُترامي الأطراف , ولكنّه كان كالبحر العجاج يتلاطم بالمضارب والقباب , وبالأخبية والخيام وبالخيل والبغال والحمير , وبهذه الخلائق التي يموج بعضها في بعض , والتي لا يأتي عليها عدّ , ولا يأخذها إحصاء , ذلك هو مكان الزّيارة , وأولئك هم الزّائرون والزّائرات .

        وعندما نزلنا في مكان الزّيارة أحاط بنا وبسيّارتنا عدد وافر من النّساء , وهنّ سافرات غير مُحتجبات على نفس الهيئة التي تراهُنّ عليها في بيوتهنّ وأخذت طائفة منهنّ بأيدي طائفة من الرّجال  الذين كانوا معنا في السّيارة , وتغلغلت كلّ واحدة بصاحبها في ذلك البحر الزّاجر من الخلائق , وكان من نصيبي أنا أن تقدّمت منّي فتاة ذات حسن وجمال , وقدّ واعتدال , في عينيها حلاوة وسحر , وفي حديثها عذوبة وسمر ,وفي ملامحها دهاء ومكر , وقالت لي : ألا تحبّون أن يغفر الله لكم ؟ ! قلت : بلى , ومن ذا الذي لا يُحبّ أن يغفر الله له ؟ ! قالت : هلمّ بي إذن إلى هذه الأرجوحة ولتركب معي هذه << الطّيارة >> وادفع عنّي أنت ثمن الطّيران , وكان أصحاب الأراجيح قد انهالوا على سيدي عابد بأكثر من مائة وخمسين أرجوحة , وكانت كلّها لا تفتر عن العمل لحظة واحدة كلّ أيّام الزّيارة ليلا ولا نهارا . وواصلت كلامها وقالت : نطير خمس دقائق كاملة , ولا يُكلّفك ذلك غير فرنكين فقط , قلت : وإذا سقطت بنا هذه << الطّيارة >> إلى الأرض , أفلا يُكلّفنا ذلك حياتنا , ويُكلّفنا على الأقلّ علاجا كثيرا , وعناء طويلا ؟ قالت : لا تخف , إنّها ليست << طيّارة >> حقيقيّة بل هي << ألعوبة >> من << الألاعيب >> قد رُبطت ربطا مُحكما على هذا القطب الذي تدور حوله هي وأخواتها , فقلت لها : خذي هذا المبلغ , وهو يكفيك ثمنا لهذا الطّيران بضع مرّات , ودعيني أنا وشأني واتركي سبيلي , ثمّ نفحتها بضعة فرنكات بقبضتها , وقالت : ولكنّني أنا في حاجة إلى من يركب معي كي يحميني من السّقوط , ويُساعدني إن أقتضي الحال وانظر إلى هؤلاء الأوانس والفتيات اللاّئي لا يأخذهنّ إحصاء قد ملأن هذه الأراجح كلّها , وامتطين كلّ ما فيها من << طيّارات >> و << سيّارات >> و << عربات >> و << زوارق >> ومراكب ومقاعد وما من واحدة منهنّ إلاّ وقد ركب إلى جانبها صاحبها وخليلها من الشّبّان , قلت : ولكنّي أنا لا أصلح أن أكون لك صاحبا ولا خليلا , قالت : ولماذا ؟ قلت : لأنّي لست من هؤلاء الشّبّان , قالت : ومن تكون أنت إذن ؟ قلت : أنا من الشّيوخ , قالت << بلهجة الاستنكار >> أنت من الشّيوخ وليس في لحيتك شعرة بيضاء ؟ إنّ هذا لعجب عُجاب , واستنجدتُُ أنا بأحد معارفي فقال لها دعيه إنّه عالم , قالت : وهل العالم خير من << المُرابطين >> ؟ قال : لا , قالت : كم من ليلة لهوتها مع المُرابطين ! قال لها ولكن هذا عالم لا يرغب في ريبة ولا لهو , قالت : يجب عليه إذن أن يقعد في بيته وأن لا يحضر هذه << الزّيارة >> التي هي كلّها ريبة ولهو وهنا عجزنا هن مُجاوبتها فتركناها ومضينا نشق طريقنا بين الأخبية والخيام وبين هذه الأمواج المتلاطمة من النّساء والرّجال المُختلطين اختلاطا فاضحا مُتزاحمين << مُتراحمين >> ! وانتهينا إلى خباء كبير قالوا إنّه مقهى , فإذا هو يتراصّ << رجلا وامرأة >> كتراصّ << علب السّردين >> قد جلسوا على الكراسي وعلى الأخشاب وعلى الأرض , ووقفوا على سائر جهات الخباء يستمعون إلى الغناء والطّبول والمزامير , ويتفرّجون على النّساء الرّقصات , وكان في هذا الخباء أربع راقصات يرقصن وسط الخباء في مساحة عرضها نحو ذراعين وطولها نحو عشر أذرع , يمشينها جيئة وذهابا , وليس هؤلاء الرّقصات هنّ من اللاّئي يحترفن الرّقص ويتعايشن عليه , بل هنّ من المُحصنات المُؤمنات غالبا , ومن المؤمنات قليلا , ووقفنا ننظر , وعييَت امرأة بالرّقص وهمّت بالجلوس فتلقّاها رجل بذراعيه فاستسلمت إليه هي الأخرى وكان بعض الفضوليين السّفهاء ــ وياما أكثر أهل السّفه والفضول في هذه الزّيارة ــ يتوسّم أوجه النّساء وكلّما وقعت عينه على امرأة عليها مسحة من الجمال إلاّ وقام إليها أو تقدّم منها يطلب إليها أن ترقص قائلا لها : << هذا دورك يا زعرورة >> وقلّما تُمانع امرأة في هذا الطّلب أو ترفض هذا الاقتراح , ولقد وقفت إلى جانبها ثلاث نسوة ثالثتهنّ سمراء في مُقلتيها السّحر مُستتر كأجمل ما ترى , ورآها أحد الفضوليين فقفز إليها يتخطّى رقاب النّساء والرّجال ويتعسّف هذه ويُمسك بتلك حتّى بلغها فأخذ بيدها ونترها إليه يطلب منها أن ترقص , فاعتذرت بأنّها لا تُحسن الرّقص وبأنّها لم ترقص قطّ ولا مرّة في حياتها فألحّ عليها الرّجل فأبت وامتنعت , فقام في وجهها كثير من النّساء والرّجال يلومونها ويقولون لها :ويحك أيّتها المرأة أما تتفضّلين علينا برقصة , , << زيارة >> لسيدي عابد وصدقة عليه , !! فهمست أنا في أذن أحد الرّفقاء وقلت له : لقد صار هذا الرّقص الخليع صدقة يُتقرّب بها إلى الله ويُهدى << ثوابها >> إلى الأولياء ّ, وقالت لها امرأة أنّهم يُريدون أن يُمتعوا أبصارهم بالنّظر إلى محيّاك الجميل وثغرك اللاّمع الألمى وعينيك السّاحرتين وأنت طول عمرك مُخبّأة مدسوسة فلمّا جاءت هذه << الزّيارة >> المُباركة حرمت نفسك من ثمرتها ثمّ جعلت تقول لها بلهجة حازمة : هذا يوم الحرّية , هذا يوم النّزاهة , هذا يوم اللّهو واللّعب هذا يوم التّمتع والتّلذذ فهل فهمت أيّتها الفتاة << المهبولة >> الحمقاء , وجاءوها بشيخ كبير في عُنُقه << سبحة باكورة >> وقالوا لها هذا هو المُقدّم , وجعلوا يصيحون : قل لها يا مُقدّم ترقص لنا , فتقدّم المقدّم منها وقال لها : لماذا لا ترقصين يا بُنيّتي ؟ ألست جئت << بنيّة >> الزّيارة ؟ فقالت له الفتاة مُتوسّلة ضارعة : ما نعرفش نرقص يا سيّدي المقدّم . . . >> فقال لها : قومي وقفي في مكان الرّقص باش يشوفوك الوغش وما ترقصيش ! . . . أي أنّه يأمرُها أن تقوم وتقف حيث ترقص الرّاقصات ليتفرّج عليها ( الوغش ) أي الشّبان , فأدركها الخجل والحياء ولم تستطع أن تُلبّي ولا هذا الاقتراح , ووجمت وجوما تامّا إزّاء هذا الانتقاد على سُلوكها هذا من الزّائرين والزّائرات حتّى كأنّها قد ارتكبت خطيئة أو إثما , ومضت لسبيلها وهي مُرتبكة حيرى , فتذكّرت أنا قول الشّاعر :

وأشدّ النّساء حلاوة   ***   حال تريك تحير العذراء

        ولم نكد ننصرف إلى مكان آخر حتّى أحسست يدا ورائي تُجاذبني ردائي فالتفت فإذا الفتاة بعينها ومينها وبادرتني بقولها :عزمتك بسيّدي عابد ألا أعطتني برنوسك هذا لأتنكّر فيه وأتفرّج على هذه المرأة فقد أعجبني رقصها . . . قلت : ولماذا تتنكّرين ؟ قالت , أما رأيت ما عملوا بي الآن ؟ . . . قلت : وأين حائكك الذي تحتجبين به وتتلفعين فيه ؟ فرمتني بنظرة حزراء نكراء , وقالت بلهجة الاستنكار : << بوه ! . . . تبغي لي العمى والجدري ! ؟ . . . >> قلت لها : حاشا لله , نُعيذك بالله من كلّ سوء وكيف ذلك ؟ قالت : كلّ امرأة تحتجب في سيدي عابد فإنّها لا بدّ أن يُشوّه الجُدري وجهها , ولا بُدّ أن يُصيبها العمى , فقلت لها : يكذبون عليك يا بُنيّتي , قالت : لا تقل بُنيّتي , قلت : وماذا أقول ؟ قالت : قل لي يا أختي ! وأنت بعد لم تبلغ من العمر أن تكون أبا لفتاة في مثل سنّي , بل أنا وإيّاك في العمر سواء فأنا أختك ولست بنتك , قلت : لقد تجاوزت أنا عهد الشّباب , ودخلت في عهد الأبوّة وأنا لم أكن أبا لأحد بعدُ وأمّا أنت فلا تزالين في ميعة الصّبى وفي مثل عمر الوردة العبقة العطرة أو الزّهرة المُفتّحة الزّاهية , فقالت هذا كلام جميل , ولكنّني لا أريد أن أسمع من أحد هنا أن يقول لي : << يا بُنيّتي >> بل أحبّ أن تُناديني : << يا أختي >> أنّنا في أيّام << الزّيارة >> وهي لنا معشر الفتيات المُحتجبات أيّام مرح وسلوى نرى فيها الضّوء ونرتاح فيها من التّقيّد بالأوضاع والتّقاليد فأنا أريد أن أجد لي في هذه الزّيارة << أخا >> يُشاركني في ( خلوتي ) المرح والطّرب الزّهو والانشراح ويُطارحني ــ إن اقتضى الحال ــ أحاديث الحبّ والهوى , وما أنا بمريضة حتّى أحتاج إلى أب يشملني بعطفه ومُواساته ! . . فعجبت أنا من هذه الفلسفة العميقة , ثمّ قالت أما تُعطيني ( برنوسك ) للتّبرّك ؟ فقلت لها للتّبرّك بمن ؟ بي أنا أم ببرنوسي أم بك أنت أم بسيدي عابد ؟ قال : بل يتبرّك برنوسك بي وأتبرّك به أنا , ولا دخل لسيدي عابد في هذا , وهنا تداخل فتى كان يستمع لما نقول ورمى إليها ببرنوسه وقال لها : خُذيه ودعي هذا الرّجل فإنّه << طالب >> ولقد قالت العرب : ( أعطي بنتك لطالب حتّى تلقى لها رجُلا ! . . . ) ثمّ دنا منها وجعل يده في يدها وقال لها : هيّا بنا إلى الأرجوحة ثمّ غابا عن أبصارنا , ومضينا نحن نمشي على القبور , وكان النّاس قد نصبوا أخبيتهم ومضاربهم فوق هذه القبور , ولا سيما جماعة القصّابين ( الجزّارين ) فقد اتّخذوا هذه المقبرة مسلخا ( بطوار ) , وانتهينا إلى قبّة عالية منصوبة فوق المقبرة هي أيضا , وعليها زحام شديد , وسمعت امرأة تقول لزوجها : يا قدّور أمسك عليك طفلك ودعني أنا أدخل هذه القبّة فأرقص فيها زيارة سيدي عابد !. . . فتناول الرّجل ولده الرّضيع من يدي أمّه , ودخلت هي ترقص ولاحظ  أهل هذه القبّة العظيمة أنّ راقصة ترقص في موضع واحد وتتّجه إلى جهة واحدة فطلبوا منها أن تذهب وتجيء في رقصها , وأن تلتفت إلى سائر الجهات ليتمتّع الرّجال برُؤيتها فأبت , وقام لها رجل وأدار وجهها إلى جهة أخرى وقال لها حاجتنا بوجهك وصدرك , لا بظهرك ولا بقفاك , ولكنّها رجعت كما كانت , فقال رجل آخر وأدارها أيضا وعاتبها واستنكر النّاس منها هذا السّلوك فاعتذرت عنها امرأة وقالت : دعوها فهي ( مُحتشمة ) من زوجها وإخوتها وأبناء عمومتها , لا تلتفت في رقصها إليهم خجلا منهم وحياء , فعجبتُ أنا لهذه المرأة وعجبت لزوجها وذويها , عجبت لها كيف ترقص في حانة بها نحو ثلاثة آلاف من المتفرّجين والمتفرّجات وهي سافرة مكشوفة , ومع ذلك فهي تتظاهر بأنّها ( حشمانة ) , وعجبت لزوجها وذويها كيف انتزع الله من صدورهم الغيرة العربيّة والغيرة الزّوجيّة والغيرة الإنسانيّة وأيضا الغيرة الحيوانيّة التي تراها في الحيوان الذكر على أنثاه .

( يُتبع )                                                                             محمّد السّعيد الزّاهري

 

 

 << زيارة سيدي عابد >> ! ! ـ[5]ـ

        يظهر أنّ القرّاء الكرام قد اهتمّوا الاهتمام واعتنوا العناية كلّها بالمقالات التي نشرناها عن (زيارة سيدي عابد) ووردت على الأستاذ الزّاهري كثير من الرّسائل بهذا الشّأن , فالشّيخ المفضال مُفتي عين الصّفراء (بجنوب وهران) قد سُرّ سرورا عظيما بهذه المقالات , والأستاذ عبد القادر محداد يرى أنّ هذه المقالات هي لون جميل من ألوان الأدب الرّفيع في أسلوب مُبتكر جذاب لم يسبق لنا أن رأيناه في هذه البلاد .

        وكتب إليه صديق آخر يقول : << لو لم يكن من فائدة في زيارة سيدي عابد إلاّ هذه المقالات المُمتعة للطّلبة لكان ذلك وحده دليلا على ما في هذه الزّيارة من خير وصلاح ! ! ولنا أن نعدّ هذا من كرامات هذا الولي الصّالح , ونحن نتقدّم إلى هؤلاء الفضلاء جميعا بالشّكر الوافر الجزيل .

                                                                              



 ـ : الصّراط السّوي العدد السّادس [1]ـ

 ـ : الصّراط السّوي العدد الثامن [2]ـ

 ـ : الصّراط السّوي العدد الثاني عشر  [3]ـ

 ـ : الصّراط السّوي العدد الثالث عشر [4]ـ

 ـ : الصّراط السّوي العدد السّابع عشر [5]ـ