وأنا أغتنمها . . . المصلحة العموميّة فوق الحزازات الشّخصيّة

إرسال إلى صديق طباعة PDF
تقييم المستخدمين: / 0
سيئجيد 

فاقصُص القصص لعلّهم يتذكّرون

وأنا أغتنمها . . .

المصلحة العموميّة فوق الحزازات الشّخصيّة ([1])

        رجل عظيم له أثر جليل في فتح الجزائر ( المغرب الوسط ) , فهو أوّل من وطئت معه خيول الإسلام هذه الأرض , ولكنّه مغمور في التّاريخ , لا يجري ذِكرُه على الألسنة , ولا تُعنى بتفصيل حياته الكُتب , ذلك هو أبو المُهاجر دينار مولى مسلمة ابن مُخلّد الأنصاريّ رحمه الله .

        استعمله مولاه مسلمة ابن مخلد والي مصر من قبل مًعاوية ــ على فتح إفريقيا ــ وعزل عُقبة بنُ نافع عنها , كان المغرب الأدنى قد تمّ فتحه فوجّه أبو المُهاجر همّه إلى فتح المغرب الأوسط , بعد أن تولّى الأمر من يد عُقبة وأساء عزله ولكنّه خلاّه حُرّا طليقا .

        كان كُسيلة من ملوك الأمازيغ بالمغرب الأوسط قد جمع جُموعا كثيرة وزحف بها لقتال المسلمين فكانت بينه وبين أبي المُهاجر معارك انتهت بانتصار المُسلمين وانهزام كُسيلة وجُموعه وظَفِر أبي المُهاجر به .

        أسلم كُسيلة فاستبقاه أبو المُهاجر وقرّبه , وانتهى أبو المُهاجر من غزوه إلى تلمسان وقفل راجعا إلى القيروان العاصمة الإسلاميّة التّي كان أسّسها عُقبة , فبنى مدينة أخرى قُربها نقل إليها مركز الجيش والإمارة , فصارت القيروان في حُكم الخربة .

        أفضت الخلافة إلى يزيد بنُ مُعاوية فأعاد عُقبة إلى إمارة إفريقيا فقدمها سنة 62للهجرة فتناول الإمارة من يد أبي المُهاجر وعزله وزاد فاعتقله ونكب صاحبه كُسيلة الذي كان اعتصم بالإسلام ورجع مركز الجيش والإمارة إلى القيروان .

        سار عُقبة في جيشه في المغرب الوسط وكانت له فيه حُروب , إذ لم تكن غزوة أبي المُهاجر إلاّ تمهيدا للفتح , ثمّ توجّه إلى المغرب الأقصى حتّى انتهى إلى المُحيط الأطلانطيقي , ولم يكن هذا الفتح السّريع المُدهش قد استأصل قُوّة جُموع الوطن أيضا , ففي عودة عُقبة إلى القيروان من هذا الفتح هبطت إليه كاهنة جبل أوراس في جُموع كثيرة وهو في قلّة من أصحابه فكانت الوقعة الكُبرى التي استُشهد فيها عُقبة وصحبه وقال فيها أبو المُهاجر كلمته الكبيرة الخالدة التي جعلناها عُنوانا لهذه القصّة .

        كان عُقبة في فُتوحه مُستصحبا معه أبا المُهاجر وصاحبه كُسيلة مُعتقلين , وكان يُذيق كُسيلة أنواع الإهانة والإذلال وكان أبو المُهاجر يُحذره عاقبة تلك المُعاملة المُخالفة لما كان عليه النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم في مُعاملته للأسرى ولعُظماء النّاس .

        لقد صدق ظنّ أبي المُهاجر فإنّ كُسيلة لمّا رأى قلّة جماعة عُقبة لرُجوع الجُيوش قبله إلى القيروان أرسل إلى قومه يُعلمهم بذلك فجرّأهم ذلك على مُلاقاته والنّزول إلى قتاله بعد ما كان الخوف والرّعب قد ألجأهم إلى شعاف الجبال , فكانت تلك الوقعة .

        علم عُقبة أنّه مُستشهد لا محالة فسرّح أبا المُهاجر من مُعتقله وأمره باللّحوق بالقيروان ليتولّى أمر النّاس لعلمه بسُهولة الوُصول عليه لحُسن علاقته مع كُسيلة وحُسن سُمعته عند قومه ويغتنم عُقبة الشّهادة فنسي أبو المُهاجر كلّ ما كان فيه وكلّ ما لحقه من عُقبة وقال له : << وأنا أغتنمها أيضا >> ونزل المُعترك كأصحابه واختاروا الموت الشّريف على الأسر والهوان ( [2] ) فاستشهدوا عن آخرهم وكانوا زُهاء ثلاثمائة من الصّحابة والتّابعين رضي الله عنهم .

العبرة :

        عندما تَكمل في القادة أخلاق الرّجولة ويتّحدون في الإيمان بالمصلحة المُشتركة العُليا , وفي السّعي لغاية واحدة ــ لا يحول بينهم وبين القيام بجلائل أعمالهم والبلوغ إلى غاياتهم , ما تقلّ السّلامة منه بين البشر من الحزازات الشّخصيّة وأن نالهم من ذلك ما لا بدّ منه من أثره السيئ في طريق سعيهم وسُرعة وُصولهم .

        فسوء مُعاملة أبي المُهاجر لعُقبة كانت نتيجته مُعاملة عُقبة له التّي تجاوزتها في الإهانة , حتّى ارتكب عُقبة ذلك المركب القبيح الوخيم العاقبة في مُعاملة كُسيلة , لكنّ القائِدين العظيمين كانا يُؤمنان إيمانا واحدا بالمصلحة المُشتركة العُليا , ويعملان لغاية واحدة هي إعلاء كلمة الإسلام واغتنام الشّهادة في سبيله , فلم يأل أبو المُهاجر في نُصح عُقبة وهو تحت قُيود الاعتقال ولم يتوقّف عُقبة في سراح أبي المُهاجر ليتولّى الإمارة بالقيروان ولكنّ الغاية الكُبرى عند أبي المُهاجر ــ كما هي عند مثله ــ هي الموت في سبيل الله والفوز بالشّهادة , فقال : << وأنا أغتنمها أيضا >> وما كانت تلك الوقعة التّي خسر بها الجيش الإسلامي أولئك الأبطال إلاّ أثرا لازما لتلك الحزازات الشّخصيّة والنّقائص البشريّة , ولكلّ شيء أثره في هذه الحياة .

القُدوة :

        ضرب أبو المُهاجر القائد العظيم أسمى مثل في نِسيان النّفس , والزّهد التّام في الحياة الدّنيا ورئاستها , والرّغبة الصّادقة في نيل الشّهادة , كما ضرب أسمى مثل في الشّجاعة والإقدام والتّضامن التّام مع الأصحاب في وقت الشّدّة وطرح كلّ أمر شخصيّ إزّاء الصّالح المُشترك العام , فرحمه الله وجازاه الله وجازى من معه عن الإسلام وعنّا خير الجزاء .        



مجلّة الشّهاب الجُزء الثالث المُجلّد الخامس عشر   : ( [1](

   : راجع << تاريخ الجزائر في القديم والحديث >> للأستاذ الميلي.( [2] (