مبادئ الأصول للعلاّمة ابن باديس :
قال الإمام المُصلح المجدّد الشّيخ عبد الحميد بن محمّد بن المُصطفى بن المكّي بن باديس القسنطيني الجزائري رحمه الله :
مبادئ الأصول
علمُ الأصول معرفة القواعد التي يُعرف بها كيف تستفاد أحكام الأفعال من أدلّة الأحكام , فلنحصر الكلام في أربعة أبوابٍ :
الباب الأوّل
في أفعال المُكلّف
من مُقتضى عبودية العبد لربّه أن يكون مُطيعا له في جميع أفعاله , ممّا يفعله بجوارحه الظّاهرة أو بجوارحه الباطنة وذلك بأن يجريَ على مُقتضى طلب الله وإذنه , فيفعل ما طلب منه فعله , ويترك ما طلب منه تركه , ويختار فيما أذن له في فعله وتركه , إذ كلّ فعل من أفعاله لا بُدّ أن يكون مطلوب الفعل أو مطلوب التّرك أو مأذونا في فعله وتركه .
الباب الثّاني
في أحكام الله تعالى
كلّ فعل من أفعال المُكلّف الظّاهرة والباطنة لا بُدّ أن يكون قد تعلّق به حكم من أحكام الله تعالى لأنّ الإنسان لم يُخلق عبثا , ولم يُترك سُدى , وحُكم الله تعالى هو طلبه أو إذنُه أو وضعه .
والطّلب إمّا للفعل وإمّا للتّرك , وهو في كليهما : إمّا على سبيل التّحتيم , وإمّا على سبيل التّرجيح , ــ فما كان طلاب على سبيل التّحتيم فهو الإيجاب ــ وما كان طلاب على سبيل التّرجيح فهو النّدب أو الاستحباب ــ وما كان طلبا للتّرك على سبيل التّرجيح فهو الحظرُ والتّحريم ــ وما كان طلبا على سبيل التّرجيح فهو الكراهة , وإذنُه في الفعل والتّرك هو الإباحة .
وإنّما سُمّي الطّلب والإذن : حُكما , والحكم " إثبات شيء لشيء أو نفيه عنه " لأنّ الإيجاب إذا تعلّق بالفعل ثبت له هذا الوصف , وهو الوجوب , فيقال فيه : واجب , ولأنّ الاستحباب والنّدب إذا تعلّق بالفعل ثبت له هذا الوصف , وهو الاستحبابيّة والمندوبيّة , فيقال فيه : مُستحب ومندوب , ولأنّ التّحريم والحظر إذا تعلّق بالفعل ثبت له هذا الوصف , وهو الحُرمة والمحظوريّة , فيقال فيه : حرام ومحظور , ولأنّ الكراهة إذا تعلّقت بالفعل ثبت له هذا الوصف , وهو المكروهيّة فيقال فيه : مكروه , ولأنّ الإذن والإباحة إذا تعلّق بالفعل ثبت له هذا الوصف , وهو المأذونيّة والإباحيّة , فيُقال فيه : مأذون فيه ومُباح , وتُسمّى هذه الأحكام الخمسة أحكاما تكليفيّة لما في تحصيل المطلوب من الكُلفة .
الوضع :
وأمّا وضعه تعالى " فهو جعله الشّيء سببا يلزم من وُجوده الوُجود ومن عدمه العدم لذاته , كدخول الوقت لوُجوب الصّلاة وصحّتها . أو شرطا يلزم من عدمه العدم , ولا يلزم من وُجوده الوُجود ولا عدم لذاته , كالوُضوء لصحتّها . أو مانعا يلزم من وُجوده العدم , ولا يلزم من عدمه وُجود ولا عدم لذاته , كالحيض لوُجوبها وصحتّها " .
وإنّما سُمّي هذا الوضع حُكما لأنّ ما وضعه الله سببا تثبت له السّببيّة , وما وضعه شرطا تثبت له الشّرطيّة , وما وضعه مانعا تثبت له المانعيّة , وتُسمّى هذه الأحكام الثّلاثة وضعيّة نِسبة للوضع والجعل.
تفريق ما بينهما :
ممّا يفترقان فيه أنّ الحكم التّكليفي مُتعلّقُه فعل المُكلّف من حيث طلبه والإذن فيه , وأنّ الحكم الوضعي مُتعلّقه الأشياء التي تُجعل شُروطا وأسبابا وموانع , سواء كانت من فعل المُكلّف , كالوضوء شرطا في الصّلاة , أو لم تكن كدخول الوقت سببا في وُجوبها .
وأنّ مُتعلّق الحُكم التّكليفي يُطالبُ المُكلّف بتحصيله لأنّه فعله , وأنّ مُتعلّق الحكم الوضعي لا يُطالب بتحصيله إذا لم يكن من فعله , كدخول الوقت , ومرور الحول , ويُطالب بتحصيله إذا كان من فعله كالطّهارة واستقبال القبلة ويكون الفعل حينئذ مُتعلّقا للحكمين باعتبارين مُختلفين .
الأحكام الشّرعيّة في الخطابات الإلهيّة :
كلّ حكم من أحكام الله تعالى فهو مُستفاد من الخطابات المُوجّهة إلينا وما تضمّنّ منها حُكما تكليفيا فهو خطاب تكليف وما تظمّن حكما وضعيا فهو خطاب وضع , وقد يتضمّن الخطاب الحُكمين معا , أمثلةٌلذلك : ــ فمن قوله تعالى : (<< وأقيموا الصّلاة >>) عرفنا الحكم الذي هو الإيجاب للصّلاة , ــ ومن قوله تعالى : (<< ولا تقربوا الزّنا >>) عرفنا الحكم الذي هو التّحريم للزّنا ــ ومن قوله صلّى الله عليه وسلّم في العامد للصّلاة إنّه :" تُكتب له بكلّ خطوة حسنة , وتُمحى عنه بالأخرى سيّئة " عرفنا الحُكم الذي هو استحباب كثرة الخُطى إلى المساجد , ــ ومن قوله تعالى : (<< ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسّعة أن يؤتوا أولي القُربى والمساكين والمُهاجرين في سبيل الله >>) عرفنا الحُكم الذي هو كراهة الحَلفِ على الامتناع عن الصّدقة ومن قوله تعالى (<< فإذا قُضيت الصّلاة فانتشروا في الأرض >>) عرفنا الحُكم الذي هو الإذن في الانتشار , ــ ومن قوله تعالى :(<< أقم الصّلاة لدلوك الشّمس . . . >>) عرفنا الحُكم الذي وضعه تعالى دُخول الوقت سببا لإقامة الصّلاة , ــ ومن قوله صلّى الله عليه وسلم : " لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتّى يتوضّأ " عرفنا الحُكم الذي وضعه تعالى الوُضوء شرطا في الصّلاة , ــ ومن قوله صلّى الله عليه وسلّم : " أليس إذا حاضت المرأة لم تُصلّ ولم تصم " عرفنا الحُكم الذي وضعه تعالى الحيض مانعا من الصّلاة والصّوم , ــ ومن قوله تعالى : (<< يأيّها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصّلاة فاغسلوا وُجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برُءوسكم وأرجُلَكم إلى الكعبين >>) عرفنا الحكم الذي هو إيجاب الوُضوء , وعرفنا الحكم الذي هو وَضعُه تعالى الوُضوء شرطا في الصّلاة , فاشتمل هذا الخطاب على الحُكم التّكليفيّ والوضعيّ معا .
تقسيم وتتميم :
ينقسم الحكم أيضا إلى عزم وترخيص فما كان حُكما ابتدائيا عمّا في جميع الأحوال فهو عزم , والفعل الذي تعلّق به يُسمّى عزيمة , كإيجاب الصّلاة والصّوم وتحريم الخمر , وما كان حُكما سهلا شُرع بعد حُكمٍ صعب في حالة خاصّة لأجل العذر مع قيام السّبب للحُكم الأصلي فهو ترخيص , والفعل الذي تعلّق به يُسمّى رُخصة , كقصر الصّلاة , والفطر في السّفر والمسح على الخُفّ وإساغة الغُصّة بالخمر .
تصحيح وإبطال :
وينقسم أيضا إلى تصحيح وإبطال : فالتّصحيح الحُكم بالصّحة في العبادات , وعُقود المعاملات , وهي استيفاء العقد أو العبادة للشُروط المُعتبرة فيه شرعا , وسلامته من الموانع بحيث يقع على الوجه المشروع , وما تعلّقت به الصّحة منهما فهو صحيح , وإبطال الحُكم لإبطال العقد أو العبادة . والبُطلان والفساد هو اختلال العبادة أو العقد لتخلّف شرط , أ, وُجود مانع , بحيث تكون العبادة أو العقد وقعت على غير الوجه المشروع , وما تعلّق به الإبطال فهو باطل لقوله صلّى الله عليه وسلّم : " من عمل عملا ليس عليه أمرُنا فهو ردّ " رواه الشّيخان عن عائشة رضي الله عنها .
مُقتضيات الحكم :
الحاكم هو الله تعالى وكلّ حاكم من الخلق إنّما يكون حاكما شرعا إذا كان يحكم بحُكم الله يتحرّاه ويقصده , لقوله تعالى : (<< إن الحكم إلاّ لله >>) , (<< وأن أحكم بينهم بما أنزل الله >>) ,(<< إنّا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين النّاس بما أراك الله >>) , (<< ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون >>) , (<< ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظّالمون >>) , (<< ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون >>) .
المحكوم فيه :
هو فعلُ المُكلّف الظّاهر والباطن ولم يُكلّف الله العباد إلاّ بما في مقدورهم , ولا حرج عليهم فيه , فلا تكليف بغير المقدور , كقيام المُقعد للصّلاة , ولا بما فيه حرج , كقيام المريض لها , لقوله تعالى : (<< ربّنا ولا تُحمّلنا ما لا طاقة لنا به >>) , (<< لا يُكلّف الله نفسا إلاّ وُسعها >>) , (<< وما جعل عليكم في الدّين من حرج >>) .
المحكوم عليه :
وهو المُكلّف البالغ العاقل المُختار دون الصّبي والمجنون والمعتوه والمُكره .
المُخاطب بالأحكام :
إذا كان الخطاب بحكم وضعي , فهو على عمومه للمُكلّف وغيره , ولهذا لزم الصّبيّ والمجنون أرش جِنايتهما ووجبت الزّكاة بمُلك النّصاب في مالهما , وإن كان الخطاب بحُكم تكليفي فهو لخُصوص المُكلّفين .
ثمّ الخطاب التّكليفيّ إن كان ممّا تتوقّف عليه مصلحة كلّ فرد توقّفا مُباشرا توجّه لكلّ فرد , وسُمّي الخطاب خطابا عينيا , ويُسمّى المطلوب به مطلوبا عينيا , واجبا كان أو مندوبا , كالصّلاة والصّوم والحجّ والصّدقة فرضها ونفلها , ولا يَسقط الطّلب فيه عن أحد بقيام غيره به .
وإن كان ممّا تتوقّف عليه مصلحة المجموع ,ومصلحة الفرد من حيث إنّه جُزء من المجموع , توجّه للمجموع , وسُمّي الخطاب خطابا كفائيا ويُسمّى المطلوب به مطلوبا كفائيا , واجبا كان الطّلب , كطلب العلم , والأمر بالمعروف والنّهي عن المُنكر , أو مندوبا كإفشاء السّلام ,وتشميت العاطس , ويسقط الطّلب عن المجموع إذا قام به بعضهم , ويكفي فيه عن كلّ أحد غيره ومن هذا القسم جاء قوله تعالى : (<< ولْتكن منكم أمّة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المُنكر وأولئك هم المفلحون >>) , (<< فلولا نفر من كلّ فرقة منهم طائفة ليتفقّهوا في الدّين وليُنذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلّهم يحذرون >>) .
الباب الثّالث
أدلّة الأحكام من الكتاب والسّنّة والإجماع والقياس
الكتاب : هو القرآن العظيم وهو الكتاب المُنزّل على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم , المكتوب في المصاحف , المنقول إلينا بالتُواتر , المحفوظ بحفظ الله من التّبديل والتّغيير .
وهو أصل الأدلّة , إذ كلّها يرجع إليه , ويُستدلّ على حُجّيتها به , فالسّنّة بيانه , والإجماع لا يكون إلاّ عن دليل منه أو من السّنّة , والقياس لا يكون إلاّ على أصل ثبت حُكمه بالكتاب أو السّنّة أو الإجماع .
السّنّة : هي ما ثبت عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم من قول أو فعل أو تقرير وهي حُجّة في دين الله بالإجماع لقوله تعالى : (<< وما آتاكم الرّسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا >>) , ولقوله تعالى : (<< يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرّسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الله والرّسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا >>) وقوله تعالى : (<< وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضلّ ضلالا مبينا >>) وقوله تعالى : (<< فليحذر الذين يُخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يُصيبهم عذاب أليم >>) وقوله تعالى : (<< ويقولون آمنا بالله والرّسول وأطعنا ثمّ يتولّى فريق منهم من بعد ذلك ــ إلى قوله ــ وما على الرّسول إلاّ البلاغ المبين >>) وقوله تعالى : (<< وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرّسول رأيت المنافقين يصدّون عنك صدودا >>) .
وتجيء السّنّة لبيان الكتاب لقوله تعالى : (<< وأنزلنا إليك الذكر لتبيّن للنّاس ما نزّل إليهم >>) وقوله تعالى (<< وما أنزلنا عليك الكتاب إلاّ لتبيّن لهم الذي اختلفوا فيه >>) .
وتستقلّ بالتشريع لقوله تعالى : (<< وما آتاكم الرّسول . . . >>) الآية وقد روى الشيخان : أنّ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال " لعن الله الواشمات والمُستوشمات , والنامصات والمُتنمّصات والمتفلّجات للحسن المغيّرات خلق الله " قال : فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يُقال لها أم يعقوب وكانت امرأة تقرأ القرآن فأتته فقالت : ما حديث بلغني عنك أنّك لعنت الواشمات ؟ فقال عبد الله : ومالي لا ألعن من لعن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم , وهو في كتاب الله , فقال المرأة : لقد قرأت ما بين لوحي المصحف فما وجدته . فقال لها : لئن كنت قرأتيه وجدتيه , فقال الله عزّ وجلّ : (<< وما آتاكم الرّسول فخذوه >>) الآية , فقالت المرأة : فإنّي أرى شيئا من هذا على امرأتك الآن , قال : اذهبي فانظري , قال : فدخلت على امرأة عبد الله فلم تر شيئا , فجاءت إليه فقالت : ما رأيت شيئا , فقال : أما لو كان ذلك لم نُجامعها "
الإجماع : هو اتفاق مُجتهدي هذه الأمة بعد وفاة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في عصر من الأعصار على حكم شرعي .
وهو حجة , لقوله تعالى : (<< ومن يشاقق الرّسول من بعد ما تبيّن له الهدى ويتّبع غير سبيل المؤمنين نولّه ما تولّى ونصله جهنّم وساءت مصيرا >>) .
وهو قسمان : عملي نقلته الأمة كلّها كالصّلاة والصّيام .
ونظري : وهو إمّا أن يكون مبنيا على النّظر والاجتهاد عن أدلّة قطعيّة أو عن أدلّة ظنّيّة وهذا وقوعه ممكن , ولكنّ معرفته متعذرة , لانتشار المُجتهدين في الآفاق وكثرة عددهم , إلاّ إجماع الصّحابة قبل انتشارهم لحصر عددهم وعدد المجتهدين منهم .
القياس : هو إلحاق فرع مجهول الحكم بأصل معلوم الحكم في ذلك الحكم لوصف جامع ما بينهما , يكون سبب الحكم الثابت الأصل , مع انتفاء الفارق بين الأصل والفرع , كإلحاق النّبيذ بالخمر في التّحريم للإسكار الجامع ما بينهما الذي هو علّة تحريمه .
الباب الرّابع
في القواعد الأصوليّة
تمهيد :
الأدلّة قسمان : أدلّة تفصيليّة وأدلّة إجماليّة ,
* فالأولى : هي آيات الأحكام وأحاديث الأحكام , وسُمّيت تفصيليّة لدلالة كلّ واحد منها على حكم مخصوص لفعل مخصوص .
* والثانية : هي القواعد الأصوليّة , وسُمّيت إجماليّة لدخول جملة كثيرة من الأدلّة التّفصيليّة تحت كلّ واحد منها , فقوله تعالى : (<< وأقيموا الصلاة >>) دليل تفصيلي في حكم الصلاة , وقاعدة الأمر للوجوب دليل إجمالي لشموله الأمر الذي في الآية وغيره وبمعرفة الدّليل التّفصيلي وما ينطبق عليه من الدّليل الإجمالي يُستفاد الحكم , فيُقال مثلا : (<< أقيموا الصّلاة >>) أمر بالصّلاة , والأمر للوُجوب , فأقيموا الصّلاة أمر بوجوب الصّلاة , فالصّلاة واجبة ومرجع الأدلّة التفصيلية : الكتاب والسّنّة , وما ذكره الأئمّة من الإجماعات والأقيسة , ومرجع الأدلّة الإجماليّة كُتب الأصول .
* قاعدة في حمل اللّفظ :
يُحمل اللّفظ على حقيقته دون مجاز إلاّ لقرينة أو دليل , ويُحمل اللّفظ على المعنى العُرفي للمُتكلّم دون المعنى اللّغوي أو العرفي لغيره , وتُحمل ألفاظ الكتاب والسّنّة على المعاني الشّرعيّة دون اللّغويّة أو العرفيّة غير الشّرعيّة .
* قاعدة في الأمر :
صيغة الأمر إذا جاءت للطّلب محمولة على الوُجوب إلاّ لقرينة أو دليل ولا يقتضي فورا ولا تكرارا , فلا يُعلمان إلاّ بقرينة أو دليل , والمرّة ضروريّة للامتثال , وتقتضي النّهي عن أضداد المأمور به وقت الامتثال , وتقتضي طلب ما لا يحصل المطلوب إلاّ به .
* قاعدة في النّهي :
صيغة النّهي للتّحريم إلاّ لقرينة أو دليل , وتقتضي الفور ودوام التّرك , وتقتضي فعل ضدّ من أضداد المنهيّ عنه .
* قاعدة في الأخذ بالمأمور به :
يُفعل من المأمور به المُستطاع ويُترك المنهيّ عنه جُملة , لقوله صلّى الله عليه وسلّم " إذا أمرتكم بشيء فخذوا منه ما استطعتم , وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه " رواه مسلم والنّسائي .
* قواعد المفهوم والمنطوق :
كلّ معنى استفيد من جوهر اللّفظ لأنّه هو المعنى الذي وُضع له اللّفظ فهو النطوق , كالشّخص الموصوف بالعلم من لفظة عالم في قولك : إذا سألت فاسأل العالم .د
وكلّ معنى استفيد من ذكر اللّفظ , وليس اللّفظ موضوعا له فهو المفهوم , كالشّخص الموصوف بالجهل في المثال المذكور , فإنّه يخطر في الذهن عند ذكر العالم لأنّه ضدّ معناه , والضّدّ يخطر بالبال عند خطور ضدّه .
كلّ معنى استفيد من ذكر اللّفظ وهو ضدّ المعنى الذي وُضع له اللّفظ فإنّه يُعطى نقيض حكم المنطوق , ويسمّى مفهوم مخالفة لمخالفته للمنطوق في الحكم كما في المثال السابق , ويُسمّى دليل الخطاب . وكلّ معنى استفيد من ذكر اللّفظ وليس ضدا للمنطوق فإنّه يُعطى حكم المنطوق , ويُسمّى مفهوم موافقة , ثمّ إن كان مماثلا للمنطوق في الوصف الذي استحق به الحكم كان مفهوما بالمساواة , ويُسمّى لحن الخطاب , كتحريم إتلاف مال اليتيم من تحريم أكله في قوله تعالى : (<< ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم >>) , لتساويهما في التّعدّي والظلم والتّضييع على اليتيم وإن كان أقوى منه في الوصف الذي استحق به الحكم كان مفهوم موافقة بالأحرويّة , ويُسمّى فحوى خطاب , كتحريم الضّرب من تحريم أفِّ في قوله تعالى : (<< فلا تقل لهما أف >>) لأنّ الفعل أشدّ من القول في الإساءة .
أنواع دليل الخطاب : *
ــ مفهوم الصّفة كقوله تعالى : (<< فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات >>) , ــ مفهوم الشّرط , كقوله تعالى : (<< وإن كنّ أولات حمل فأنفقوا عليهنّ حتّى يضعن حملهنّ >>) , ــ مفهوم الغاية , كقوله تعالى : (<< حتّى تنكح زوجا غيره >>) . ــ مفهوم العدد , كقوله تعالى : (<< فاجلدوهم ثمانين جلدة >>) . ــ مفهوم الحصر , كقوله صلّى الله عليه وسلّم : إنّما الولاء لمن أعتق . ــ مفهوم الزّمان , كقوله تعالى : (<< أيّاما معدودات >>) . مفهوم المكان , كقوله تعالى : (<< ولله على النّاس حجّ البي من استطاع إليه سبيلا >>) .
* تقييد :
لا يُحتجّ بالمفهوم إذا خرج الكلام مخرج الغالب , كقوله تعالى : (<< وربائبكم اللاتي في حجوركم >>) ــ أو جاء الكلام لتصوير الواقع , كقوله تعالى : (<< لا تأكلوا الرّبا أضعافا مضاعفة >>) . ــ أو جاء حسب ما هو الشّأن كقوله تعالى : (<< وأنتم عاكفون في المساجد >>) . ــ أو جاء للتّفخيم والتّأكيد كقوله تعالى : (<< حقا على المحسنين >>) . ــ ولا إذا عارض نصّ , كما في قوله تعالى : (<< فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم >>) , فقد ثبت في السّنّة القوليّة والفعليّة قصر الصّلاة مع عدم الخوف .
* قاعدة النّصّ :
كلّ ما دلّ على معنى واحد دون احتمال لغيره فهو نص في ذلك المعنى , كالأعلام وألفاظ الأعداد .
* قاعدة الظّاهر :
ــ كلّ ما دلّ على معنى واحتمل غيره احتمالا مرجوحا فهو الظّاهر الدّلالة على ذلك المعنى , ويتعيّن حمله على ذلك المعنى , كاسم الجنس في معناه الأصلي , والعام في استغراق جميع أفراده .
* قاعدة المؤوّل :
كلّ ما دلّ على المعنى المرجوح بسبب الدّليل فهو المؤوّل إلى ذلك المعنى الذي صار الآن مُتعيّنا فيه كاسم الجنس في غير معناه الأصلي لأجل القرينة , والعام في بعض أفراده لأجل المُخصّص .
* قاعدة في المُبيّن :
كلّ لفظ استقلّ بنفسه في الدّلالة على المراد منه فهو المبيّن سواء كان نصا أم ظاهرا , فيُحمل على معناه دون توقف فيه .
* قاعدة في المجمل :
كلّ لفظ دلّ على معنى ولم يتعيّن المراد منه بنفسه فهو المجمل فيجب التّوقف فيه حتّى يتضح المراد منه ببيّنة .
* أسباب الإجمال :
منها الاشتراك في الوضع , كالقرء للطّهر والحيض , والنّقل الشّرعي كالصّلاة والزّكاة , وصُلوحيّة الوصف للشّيئين كالذي يتولّى عُقدة النّكاح من الزّوج والولي .
* قاعدة المبين :
كلّ ما بان المراد منه بسبب غيره فهو المبيّن قولا أو فعلا أو غيرهما .
* قاعدة في العام :
كلّ لفظ استغرق ما صلح لع دفعة واحدة من غير حصر , فهو العام , ويجب أن يُحمل على عمومه لظهوره في العموم حتّى يثبت ما يُخصّصه ببعض أفراده , فيخرج منه ما اقتضى الدّليل المُخصّص إخراجه , ويبقى على عمومه فيما عداه .
* صيغ العموم :
ــ أسماء الشّرط : كقوله صلّى الله عليه وسلّم " من أحيا أرضا ميتة فهي له " وقوله صلّى الله عليه وسلّم " ما أبقت السّهام فلأولى عصبة ذكر " .
ــ أسماء الاستفهام : كقول السّائل " ما يحلّ لي من امرأتي ــ وهي حائض ؟ "
ــ والموصولات : كقوله تعالى : (<< والذين يُتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربّصن بأنفسهنّ أربعة أشهر وعشرا >>) .
ــ والمُعرّف ب" أل " الجنسيّة الاستغراقيّة فيه , كقوله تعالى : (<< والسّارق والسّارقة فاقطعوا أيديهما >>) , وقوله تعالى : (<< الرّجال قوّامون على النّساء >>) .
ــ والنّكرة في سياق النّفي أو النّهي أو الشّرط أو الاستفهام الإنكاري كقوله صلّى الله عليه وسلّم :" لا زكاة في مال حتّى يحول عليه الحول " , وقوله تعالى : (<< لا يسخر قوم من قوم >>) وقوله صلّى الله عليه وسلّم : " من آذى ذمّيا كنت خصمه يوم القيامة " , وقوله تعالى : (<< أءله مع الله >>).
ــ والمضاف إلى المعرفة عندما يُقصد به الاستغراق , كقوله عليه السّلام : " صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة " , وقوله تعالى : (<< ولا تُبطلوا أعمالكم >>) .
* قاعدة في فرق العام :
كلّ عامّ لم يدخله تخصيص فهو العام الباقي على عمومه , وإليه ينصرف لفظ العام عند الإطلاق .
وكلّ عام أريد بلفظه عند استعماله بعض أفراده فهو العام الذي أريد به الخصوص , وهو ضرب من المجاز , كقوله تعالى : (<< الذين قال لهم النّاس إنّ النّاس قد جمعوا >>) , إذ لم يُرد جميع النّاس في الموضعين , وكلّ عام أريد به جميع أفراده , وأخرج منه بعضها بمُخصّص فهو العام المخصوص .
* قاعدة في التّخصيص :
كلّ إخراج لبعض أفراد العام من اللّفظ فهو تخصيص , لا يشمل الأفراد المُخرّجة حكم العام .
* قاعدة في المخصّص وأقسامه :
كلّ ما كان به الإخراج المذكور فهو المُخصّص , فإن كان لا يستقلّ بنفسه فهو المخصّص المتّصل , كالاستثناء في قوله صلّى الله عليه وسلّم : " لا تبيعوا الطّعام بالطّعام إلاّ بسواء " , وقوله تعالى : (<< كيف يكون للمُشركين عهد عند الله وعند رسوله إلاّ الذين عاهدتم عند المسجد الحرام >>) .
وكالشّرط في قوله تعالى : (<< فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم >>) .
وكالصّفة في قوله تعالى : (<< إلاّ الذين عاهدتّم من المشركين ثمّ لم ينقصوكم شيئا ولم يُظاهروا عليكم أحدا >>) .
وكالغاية في قوله تعالى : (<< فأتمّوا إليهم عهدهم إلى مدّتهم >>) , فالتّخصيص بهذه تخصيص بالمفهوم , وإن كان مستقلا بنفسه فهو : المخصّص المُنفصل , كتخصيص قوله تعالى : (<< والمطلّقات يتربّصن بأنفسهنّ ثلاثة قروء , وقوله تعالى : (<< وأولات الأحمال أن يضعن حملهنّ >>) , تخصيصا للكتاب بالكتاب .
وكتخصيص قوله صلّى الله عليه وسلّم : " فيما سقت السّماء العشر " , يقوله صلّى الله عليه وسلّم : " ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة " تخصيصا للسّنّة بالسّنّة .
وكتخصيص قوله صلّى الله عليه وسلّم : " لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتّى يتوضّأ " , بقوله تعالى : (<< وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النّساء فلم تجدوا ماء فتيمّموا صعيدا طيّبا >>) , تخصيصا للسّنّة بالكتاب .
وكتخصيص قوله تعالى : (<< يوصيكم الله في أولادكم للذكر >>) الآية , بقوله عليه السّلام : " لايرث المسلم الكافر , ولا يرث الكافر المسلم " تخصيصا للكتاب بالسّنّة , وقد يُخصّص اللّفظ بالقياس كقوله تعالى : (<< الزّانية والزّاني فاجلدوا كلّ واحد منهما مائة جلدة >>) , خُصّص منه العبد قياسا على الأمة المُخصّصة منه بقوله تعالى : (<< فعليهنّ نصف ما على المحصنات من العذاب >>) .
* قاعد في المطلق والمقيّد :
كلّ ما دلّ على فرد أو فردين أو أفراد على سبيل الشّيوع بدون قيد فهو المطلق , سواء كان اسما أو فعلا , فيُحمل على إطلاقه حتّى يأتي ما يُقيّده , وكلّ ما دلّ على ما ذكر بقيد فهو المقيّد ويجب اعتبار قيده .
* قاعدة في حمل المُطلق على المُقيّد :
مهما اتّحدت صورة الإطلاق وصورة التّقييد في الحكم إلاّ وحُمل المُطلق على المُقيّد سواء اتّحدتا في السّبب أم لا , فالأولى كقوله تعالى : (<< وذكر اسم ربّه فصلّى >>) , المُفيد لمطلوبيّة ذكر مطلق , فحُمل على قوله عليه السّلام " تحريمها التّكبير " المُفيد تقييد الذكر بالتّكبير , لأنّ السّبب في الصّورتين واحد , وهو إرادة الدّخول في الصّلاة , والحكم فيها واحد , وهو مطلوبيّة ما نفتتح به من الذكر .
والثانية : كقوله تعالى : (<< والذين يُظاهرون من نسائهم ثمّ يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسّا >>) , المفيد تحرير رقبة مطلقا , فحمل على قوله تعالى : (<< ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة >>) المفيد تقييدها بالإيمان , لأنّ الحكم في الصّورتين واحد , وهو مطلوبيّة تحرير رقبة وإن اختلف السّبب , إذ هو في الأولى الظّهار وفي الثانية قتل الخطأ , ومهما اختلف الحكم في الصّورتين إلاّ وامتنع حمل المُطلق في إحداهما على المقيّد في الأخرى , سواء اتّحد السّبب أم اختلف , فالأوّل كقوله تعالى : (<< فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسّا >>) , المفيد مطلوبيّة صيام الشّهرين بقيد التّتابع , مع قوله تعالى : (<< فمن لم يستطع فإطعام ستّين مسكينا >>) المفيد مطلوبيّة الإطعام بإطلاق , فلا يُحمل المطلق على المقيّد , لاختلاف الحكم فيهما باعتبار مُتعلّقه , وإن اتّحد السّبب فيهما وهو الظّهار .
والثاني : كقوله تعالى : (<< والسّارق والسّارقة فاقطعوا أيديهما >>) , مع قوله تعالى (<< فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق >>) , فإنّ الحكم في الأولى هو طلب القطع , والسّبب فيها هو السّرقة , والحكم في الثانية هو طلب الغسل , والسّبب فيها هو إرادة القيام للصّلاة .
* قاعدة في المحكم والمنسوخ والنّاسخ والنّسخ :
ــ كلّ دليل شرعيّ من الكتاب والسّنّة استمرّ حكمه ولم يُرفع جُملة بدليل آخر منهما فهو المُحكم .
ــ وكلّ دليل منهما رُفع حُكمه جُملة بدليل آخر منهما فهو المنسوخ .
ــ وكلّ دليل منهما رَفع به الشّرع حُكما ثابتا بدليل سابق فهو النّاسخ .
ــ وكلّ رَفع لحكم ثابت بدليل مُتقدّم جملة بدليل مُتأخر لولاه لاستمرّ الحكم الأوّل فهو النّسخ .
* متى يُحكم بالنّسخ :
يُحكم بالنّسخ إذا تعارض الدّليلان الصّحيحان , ولم يُمكن الجمع بينهما , وعُلم المتقدّم من المُتأخر , وإلاّ قدّم الصّحيح أو جمع ما بينهما أو تُوُقف .
* مورد النّسخ :
يدخل النسخ الأحكام , ولا يدخل الأخبار .
* حكمة النّسخ :
ــ حكمة النّسخ مُراعاة المصلحة , وتدريب الأمّة على تلقي الأحكام , والتنبيه على اعتبار المصالح في التّشريع , فقد يُنتفع بذلك عند اختيار ما يُطبّق على الأمّة من أقوال أئمّة الفتوى والاجتهاد .
* وُجوه النّسخ وأقسامه :
ــ يُنسخ الرّسم ويبقى الحكم , كآية الرّجم , وهي ( الشّيخ والشّيخة إذا زنيا فارجموهما البتّة , نكالا من الله والله عزيز حكيم ) , ويُنسخ الحكم ويبقى الرّسم كآية الحول في العدّة وهي قوله تعالى : (<< والذين يُتوفّون منكم ويذرون أزواجا >>) الآية , ويُنسخ الرّسم والحكم كحديث مسلم وغيره : " أنزل عشر رضعات معلومات " , فنُسخ بحكم خمس معلومات ".
ــ ويكون النّسخ إلى بدل , كنسخ استقبال بيت المقدس , وإلى غير بدل كصدقة المناجاة .
ــ ويكون إلى ما هو أخف كآية المصابرة في القتال , وإلى ما هو أثقل , كنسخ التخيير بين الفدية والصّوم بتعيين الصّوم , ويُنسخ الكتاب بالكتاب , كآية العدّة والمصابرة , وتُنسخ السّنّة بالكتاب , كمسألة القبلة , وتُنسخ السّنّة بالسّنّة كحديث : " كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها " , ويُنسخ الكتاب بالسّنّة , كآية الوصيّة للوالدين والأقربين بحديث : " لا وصيّة لوارث " .
* تنبيه أوّل :
ما ذكر من القواعد يُطبّق على نصوص الكتاب والسّنّة , ويبقى من السّنّة فعله ــ صلّى الله عليه وسلّم ــ وتقريره .
* قواعد في أفعاله صلّى الله عليه وسلّم :
كلّ ما فعله النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم على وجه القربة في العبادات والمعاملات فهو فيه أسوة حسنة للأمّة , إلاّ إذا قام الدّليل على تخصيصه به وكلّ ما فعله صلّى الله عليه وسلّم على وجه القربة فهو دائر بين الوجوب والاستحباب , ويترجّح أحدهما بالدّليل , وكلّ ما واضب عليه فهو أرجح ممّا فعله مرّة أو نحوها , وكلّ ما تركه من صور العبادات فليس بقربة , وكلّ ما فعله للخلقة البشريّة فليس في نفسه محلا للتّأسّي , ولكن هيئته التي أوقعه عليها هي أفضل هيئة , وهي محلّ الأسوة .
* قواعد في تقريره صلّى الله عليه وسلّم :
كلّ ما قيل أو فعل بين يديه أو بلغه وأقرّه فهو حق على ما أقرّه عليه , وكلّ ما قيل أو فعل في زمانه وكان مُشتهرا شُهرة يبعد أن تخفى عليه فهو مثل ما فُعل بين يديه .
* تنبيه ثان :
تختص السّنّة عن الكتاب بقواعد تتعلّق بها من ناحية ثبوتها , لأنّها من هذه النّاحيّة ليست على درجة واحدة , بخلاف القرآن فكلّه مُتواتر , فكلّ حديث صحيح أو حسن , فإنّه صالح للاستدلال به في الأحكام , وكلّ حديث ضعيف فإنّه غير صالح لذلك , وكلّ ما ثبت فعله أو تركه بدليل مُعتبر فإنّه يُقبل ما جاء للتّرغيب فيه أو للتّرهيب منه في حديث ضعيف لم يشتدّ ضعفه .
* خاتمة في الاجتهاد والتّقليد والاتباع :
الاجتهاد : هو " بذل الجهد في استنباط الحكم من الدّليل الشّرعي بالقواعد المتقدّمة وأهله هو : " المتبحّر في علوم الكتاب والسّنّة , ذو الإدراك الواسع لمقاصد الشّريعة , والفهم الصّحيح للكلام العربي " .
التّقليد : التّقليد هو أخذ قول المُجتهد دون معرفة لدليله , وأهله هو من لا قدرة له على فهم الدّليل , وهم العامّة غير المُتعاطين لعلوم الشّريعة واللّسان " .
الاتّباع : هو " أخذ قول المجتهد مع معرفة دليله , ومعرفة كيفيّة أخذه للحكم من ذلك الدّليل , حسب القواعد المُتقدّمة , وأهله هم : " المتعاطون للعلوم الشّرعيّة واللّسانيّة , الذين حصلت لهم ملكة صحيحة فيهما , فيُمكنهم عند اختلاف المُجتهدين معرفة مراتب الأقوال في القوّة والضّعف , واختيار ما يترجّح منها , واستثمار ما في الآيات والأحاديث من أنواع المعارف المفيدة في إنارة العقول , وتزكيّة النّفوس , وتقوم الأعمال " . ولهذا كان حقا على المُعلّمين والمتعلّمين للعلوم الشّرعيّة واللّسانيّة أن يُجروا في تعليمهم وتعلّمهم على ما يوصل إلى هذه الرّتبة على الكمال .
انتهى هذا الكتاب المُبارك يوم 28 ذي القعدة سنة 1356 , على يد كاتبه الفقير إلى ربّه محمّد العربي بن صالح الحركاتي ثمّ البنعيسي , وفقه الله إلى ما يُحبّه ويرضاه , وأحسن ختامه وجعل الجنّة مأواه , وسلام على المرسلين والحمد لله ربّ العالمين .
< السابق |
---|