شُؤون وشُجون : ـ ـ بقلم الأستاذ الزّاهري العضو الإداري لجمعيّة العلماء المسلمين الجزائريين وليّة الله

إرسال إلى صديق طباعة PDF
تقييم المستخدمين: / 2
سيئجيد 

منذ عدّة أسابيع كان جاءني رجل ممّن يحملون كتاب الله , ويحترفون تعليمه وتلقينه لصغار المُسلمين وقال لي : كنت طلبت الإدارة ( الحكومة ) أن تأذن لي بفتح كُتّاب من الكتاتيب القرآنيّة وقدّمتُ إلى الحكومة مع الطّلب جميع الأوراق اللاّزمة ,. قال ولبثت أنتظر الإذن أو الجواب وطال انتظاري حتّى ظننت أنّ المسألة قد أهملت بالمرّة , وهممت أن أعاود الكرّة وأجدّد طلبا آخر , وأنا كذلك إذ دُعيت إلى إحدى الدّوائر الحكوميّة فلبّيت مُسرعا , وقال لي رئيس هذه الدّائرة : لماذا تطلب الرّخصة بفتح كتّاب قُرآني ؟ فقلت له لأنّي أريد أن << أعيش >> فقال لي : وهل ضاقت بك أوجه المعيشة كلّها حتّى تعيش من تلقين القرآن للأطفال ؟ قال : فقلت له نعم لقد أردت أن أطلب الرّزق في فرنسا فلم يُؤذن لي بالسّفر إليها , وأردت أن أطلبه في المغرب الأقصى فلم يُؤذن لي أيضا بالسّفر إليه , قال : وذكرت له عدّت مُحاولات حاولتها طلبا للرّزق وفي كلّ مُحاولة كانت الحكومة هي التي تُحجزني وتمنعني أن << أعيش >> , على أنّي قد طلبت منكم اليوم أن تأذنوا لي بفتح كتّاب قرآني وقد مضى الآن على طلبي ستّة أشهر ولم أحض بجواب , ولا يخفاكم أنّي أدفع ثمن كراء المحلّ الذي قدّمت إليكم تصميمه ( بلان ) ليكون هو الكتّاب , وقد دفعت لحدّ الآن كراء سبعة أشهر كاملة , فما هذه العراقيل التي تضعونها في سبيل كتاتيب القرآن الكريم ؟ ومتى تنتهي هذه المُماطلة والتّسويف ؟ قال : فسألني رئيس هذه الدّائرة وقال : ما هي طريقتك ومن هو المُرابط الذي تخدمه وتُطيعه ؟؟؟ قال : فدهشت لهذا السّؤال , ولكنّه كان أكثر منّي دهشة واستغرابا عندما أجبته بأنّي مُسلم وكفى , أي أنّي لا أؤمن بمرابط ولا طريق , وقال لي أنت من عائلة مشهورة بالصّلاح والتّقوى , فلماذا لا تتبع أنت عادة أسلافك الذين كانوا كلّهم طُرقيين , قال : ولم يزل بي ينصحني ويحثني على الدّخول في إحدى الطّرق الصّوفيّة أيّة كانت , حتّى ظننت أنّه هو سيمد يده إ ليّ ويضعها في يدي و << يُعطيني الوسيلة !!! >> .

        قال وعندما هممت بالخروج من عنده قال إيّاك أن تتّبع المُصلحين حزب جمعيّة العلماء المسلمين الجزائريين فإنّهم ملاحدة كفار ضدّ أولياء الله الصّالحين , قال : فعجبت لهذا الحاكم المسيحي يصف << العلماء المسلمين >> بأنّهم ملاحدة كفار حتّى كأنّه هو أصبح وليا من أولياء الله ! وأخيرا فإنّ هذا الرّجل لم يحظ بهذه << الرّخصة >> التي يطلبها من الحكومة بفتح مكتب قرآني وعيبه الوحيد ليس << طُرقيا >> ولا هو من الفقراء المُريدين ! . وعلمنا بعد هذا أنّ بعض الذين يحفظون القرآن الكريم وينتمون إلى بعض الطّرق قد طلبوا من الحكومة أن تُرخّص لهم بفتح بعض المكاتب القرآنيّة , وبعد المماطلة والتّسويف أذنت لهم بذلك ثمّ عادت فأوغرت إلى بعض أشياخ الطّرق بأن يُشيروا عليهم بترك هذه المهنة , مهنة تعليم القرآن وزيّنوا لهم التّحوّل عنها إلى مهنة أخرى غيرها , فأطاعوا وتركوا تعليم القرآن الكريم .

        وبعدُ فاحمدوا الله أيّها المسلمون الجزائريون فقد أصبحت السّلطة في الجزائر << صوفيّة وليّة الله >> تعالى وأصبح في رجال السّلطة من هم بمنزلة أشياخ الطّرق ومقاديمها , ولم يبق إلاّ أن نراهم يحملون << السّبح >> في أعناقهم , ويحضرون حلقات الذكر في الزّوايا !! .

هلال رمضان :

        كان البرد شديدا ليلة الاثنين ( مساء الأحد ) وكان الظّلام حالكا إذا أخرج أحد يده لم يكد يراها وكانت السّحب والغيوم مُتراكمة يركب بعضها بعضا وكان المطر ينزل مُنهمرا غزيرا وكانت الرّياح عاصفة هوجاء تقتلع قرمود السّطوح وتكسر أطراف الشّجر وزُجاج النّوافذ والشّبابيك وكانت الثلوج تنتابنا الفينة بعد الفينة وتسفينا << بأليافها >> ولم يكن من عادة الثلج أن ينزل بوهران , فلزم الناس منازلهم لا يبرحونها تلك اللّيلة ولم يتمكّنوا من مُشاهدة الهلال فيها , ولم يصلنا خبر من هذه البلدان القريبة لأنّ الجوّ فيها كان كما هو في وهران , فبتنا بنيّة أن نُصبح مُفطرين فلمّا كانت السّاعة السّابعة صباحا وصلتني برقيّة من الأستاذ الجليل رئيس جمعيّة العلماء المسلمين ومن الشّيخ قاضي قسنطينة وقد صدرت عن قسنطينة السّاعة العاشرة والدّقيقة الـ 55 , وفي الحق أنّ إدارة البرق هنا قد فرّطت , وكان عليها أن تُبلغني هذه البرقيّة فور وُصولها ( وقد فعلت الواجب الذي يُخوّلنيه القانون بهذا الصّدد ) وكان منّي أنا أيضا تفريط أعترف به وأتوب منه ولا أعود إليه وهو أنّه كان الواجب عليّ أن أتّصل بإدارة الشّهاب بالهاتف ( التيليفون ) , فلو أنا فعلت ذلك لكان وصلنا الخبر في الوقت اللاّزم , وكانت هذه البرقيّة تُفيد أنّ ليلة الاثنين هي اللّيلة الأولى من رمضان , ومن الاتّفاق الحسن أنّني ــ حينما وصلتني البرقيّة ــ لم أكن تناولت شيئا ما لا أتايا ولا سواه , فبقيت صائما , وخرجت من فوري لأبلّغ الخبر إلى النّاس وكان يوما شاتيا مطيرا , وكان البرد شديدا وكانت الرّياح لا تزال عاصفة هوجاء تُزمجر وتفحّ فحيح الأفعى وجعل النّاس يُمسكون عن الطّعام وينوون الصّيام , وأرسلنا بهذه البرقيّة إلى الشّيخ مُفتي وهران الجديد , لعلّه يأمر من يُؤذن في النّاس برمضان , فقال : إنّ النّاس قد أصبحوا مُفطرين , وإذا نحن أخبرناهم بغير ما بيّتوا ونوَوا وقلنا لهم قد ثبت أنّ اليوم رمضان كان في ذلك تشويش عليهم , ونفروا لا محالة غير مُذعنين , فتعجّبنا نحن من هذه الاعتذارات العامّيّة الباردة , وكان واجبه أن يُؤدّي ما عليه لله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم وأن يُبيّن للنّاس ما يأمر به الشّرع الشّريف , فإذا امتثل النّاس  فذلك ما كنّا نبغي , وإن أبوا برئت ذمّته من كلّ تبعة , وعلى كلّ حال فقد << أمسك >> كثير من النّاس ونوَوا الصّيام .

        والشيء العجيب الذي نُريد أن نُنبّه إليه هنا هو أنّ الشّيخ مُفتي تلمسان الحالي قد ظلّ يوم الاثنين كلّه << يهتف >> و<< يُتلفن >> إلى << عامله >> بوهران وإلى وهرانيين آخرين يأمرهم بأن لا يجعلوا رمضان بالاثنين , ويقول لهم إنّ الثلاثاء هو أوّل يوم من رمضان ويُحذرهم أن يقتدوا بالعلماء أو برئيس العلماء ( يعني الأستاذ ابن باديس ) وأخبروه بالهاتف أنّ برقية وردت وهران على الزّاهري من قسنطينة تُنبئ بثبوت رمضان يوم الاثنين فقال أنّ برقيّة أخرى مثلها وردت تلمسان على الإبراهيمي , وأرسل بها إليه , ولكنّه لم يعمل بها !! وتكلّم بالهاتف مرّة أخرى من تلمسان مع صديق لنا في وهران في هذه النزلة , وكنت أنا حاضرا , وجعلت << السّماعة >> على أذني فسمعته يُعيد هذا الكلام , وسمعته يطعن على العلاّمة الأستاذ الشّيخ الإبراهيمي , ويقول : << إنّني أستطيع أن ألحق الضّرر بالإبراهيمي لأنّه جعل للنّاس رمضان بلا رمضان , وقد طلب منّي حاكم تلمسان ( سو بريفي أن أكتب إليه ( رابورا ) ضدّ الإبراهيمي الذي اعتدى فأخبر النّاس بأنّ اليوم رمضان , ولكنّي أنا أشفقت عليه !!! ) وقد خُيّل إليه ( كما يظهر من كلامه ) أنّ السّلطة ستحكم على الإبراهيمي بالنّفي أو بالإعدام بمُجرّد ما تتسلّم << الرّابور >> الذي يُلفقه المفتي ضدّه !! ثمّ قال الشّيخ للمُفتي من كلام طويل : < إنّ العادة الجارية عندنا والموروثة من أسلافنا هي أنّنا لا نصوم إلاّ إذا رأينا الهلال بأنفسنا , ولا عبرة بالرّؤية إذا كانت من غليزان فما يليها من الشّرق لأنّها بلاد بعيدة عنّا . . > ثمّ تأسّف الشّيخ المُفتي وتحسّر لأنّ التّلمسانيين جميعا نساء ورجالا يُحبّون الشّيخ الإبراهيمي ويُحبّون إخوانه من العلماء المسلمين ثمّ قال إنّ السّلطة ورجالها في تلمسان تُحبّه هو ولا تُحبّ الإبراهيمي . . . ونحن لم نكد نُصدّق ما سمعناه لأنّ هذا الشّيخ يتظاهر بالولاء لكم أيّها المُصلحون وهو من الذين إذا لقوكم سلقوكم بألسنة حداد وما كنت لأعرض لكلامه هذا ولا لأجاوبه عنه لولا أنّ كلمات منه تردّدها العامّة هنا وتلوكها كثيرا .

        تجري على ألسنة العامّة وأشباه العامّة كلمة يُنزلونها منزلة القواعد الشّرعيّة الثابتة وهي قولهم : < لكلّ قوم رُؤيتهم > وعلى هذه القاعدة التي يُسيئون فهمها لا يعملون في صيامهم وإفطارهم وأعيادهم إلاّ برُؤية الهلال التي يرونها هم , وهم يجعلون لكلمة < قوم > من قولهم : لكلّ قوم رُؤيتهم , معنىً ضيّقا جدّا فهي لا تعني عندهم الأمّة أو الشّعب ولكنّها تعني أهل البلدة الواحدة أو القبيلة أو العشيرة أو نحو ذلك من المعاني الضّيقة المحدودة ولهذا فمدينة غليزان مثلا لا تدخل في كلمة < قوم > بالنّسبة إلى وهران أو تلمسان أو مُعسكر مثلا , ونحن قرأنا في كُتب الفقه المالكي فإذا بالشّيخ الدّردير رحمه الله يقول : يجب على من بلغته الرّؤية أن يعمل بها قريبا كان أو بعيدا , ثمّ إنّنا نرى أهل المغرب الأقصى يصومون كلّهم في يوم واحد ويُفطرون كلهم في يوم واحد , ولم نسمع أنّ بلدة هنالك خالفت بدعوى أنّها لم تر الهلال بنفسها , وكانت الدّولة العلية ( العثمانيّة ) تعدّ نحوا من خمسين مليونا من المسلمين , وكان من شعوب مُختلفة وأقطار مُتباعدة , ومع ذلك فقد كانت هذه الإمبراطوريّة كلّها تصوم في يوم واحد وتُفطر في يوم واحد بما فيها مصر وطرابلس وبلاد العرب وأروبا العثمانيّة , وكانت تعمل بالرّؤية مهما ثبتت , في أيّ قطر من هذه الأقطار بل في أيذ قرية في طرف من أطراف الإمبراطوريّة العثمانيّة , وفي المغرب الأقصى وفي مصر وفي تُركيا وفي غيرها علام أعلام من جميع المذاهب المعروفة , ومع ذلك فلم نسمع أنّ أحدهم قد اعترض وقال < لكلّ قوم رُؤيتهم > !!  وأمّا مسألة < الرّابور > الذي طلبه السوبريفي من الشّيخ المُفتي ليكتبه ضدّ الأستاذ الإبراهيمي فإنّنا نتمنّى لو أنّ الشّيخ كتب < رابورات > ضدّ المُؤمسات وضدّ رُوّاد الحانات , على أنّ الأستاذ الإبراهيمي يعرف جيّدا ما هو صانع فلا يُخالف عن القوانين المشروعة ولا يأتي بأدنى مُخالفة فيحتاج فيها إلى من يستر عليه ويجب أن يفهم الشّيخ أنّ < رابورات > قد لفقها بعض أولي المناصب العالية الكبرى ضدّ الإبراهيمي وابن باديس والعقبي والزّاهري والعمودي وإخوانهم , ومع ذلك فلم يقع شيء .

        كتبنا هذه الكلمة لنُنبّه حضرة الشّيخ المُفتي إلى أنّ من واجبه أن يتعاون مع الإبراهيمي , فذلك خير له وخير للمسلمين جميعا , أمّا الاستمرار على هذه الخطّة الجديدة التي اختطّها لنفسه , فلئن أفاده مع خصوم له قدماء فلن يُفيده مُطلقا بأيّ وجه مع المُصلحين وله منّا تمام الاحترام .

                                                                                    محمّد السّعيد الزّاهري ( الصّراط السّوي العدد السّابع عشر )