ترجمة الشّيخ عبدُ القادر المجاوي

إرسال إلى صديق طباعة PDF
تقييم المستخدمين: / 8
سيئجيد 

ترجمة الشّيخ عبدُ القادر المجاوي [1]

تمهيد :

        بعد هجرة أكثر العلماء والمُجاهدين والأعيان , خلت الدّيار من أهلها وصارت الدّولة للفرنسيس . . . فاستبدّ بنفوس الناس جُمود وخُمول خيّم عليه اليأس والقنوط , وصار أكثرُ حالهم كما يروي المُستشرق الفرنسيّ ( جوزيف ديبارمي ) عنهم : << . . . المُسلم ( الجزائريّ ) لا يخرج من داره إلاّ ذليلا ومُحجّبا كالمرأة لأنّ الشارع فيه حضارة أخرى , وهي حضارة الرّوميّ ( الفرنسيّ ) . . . المُسلمون أهينوا على يد الكفار . . . >>([2]) .

        وفي هذا الظرف البائس كان هُناك . . .  في خبايا الزوايا بعض البقايا , وهُم صنفٌ من العُلماء والطلبة الذين كانوا يستكملون مُهمّتهم التعليميّة رغم الظروف مُؤثرين البقاء مع النّاس على الهجرة .

        قال الشّيخ محمّد بيرم التونسيّ في ( رحلته ) : << ومن الأخيار الذين اجتمعتُ بهم ومنحوني فضائل أخلاقهم النّحرير العالم الشّيخ عليّ بن الحفاف المالكيّ بقاعدة الجزائر , وهو من تلامذة علاّمة القطر الإفريقيّ الشّيخ إبراهيم الرّياحيّ , كما أخبرني بذلك عن نفسه , وله فضائل كاملة وتقوى وسكينة واطلاع وسعة في الفقه والحديث , وذاكرني في الهجرة فذكرته بأنّ مثله قليل الوُجود في ذلك القطر , وأنّ بقاءه فيه لتعليم النّاس دينهم أنفعُ للعامّة وله عند الله تعالى من خروجه برأسه , وأنّ بقاء تلك الأمّة المُسلمة خالية عن مثله بل ربّما حمل خروجه غيره ممّن هو على شاكلته على الخروج فتبقى العامّة بلا تعلم لديانتهم , وتضمحلّ منهم الدّيانة شيئا فشيئا والعياذ بالله , بخلاف ما إذا بقي هو وأمثاله فإنّه تنتشر تعاليم الإسلام والفقه , وتبقى الدّيانة إن شاء الله تعالى محفوظة في الأهالي , وذلك منصُوص عليه في كتب فقهنا حتـّى إنّ الأسارى إذا لم يمكن فداؤهم جملة فيؤخر منهم العُلماء([3]) . . . >>([4]) .

        وعلى هذا الرّأي لم يُهاجر جماعة من العُلماء . . . وكان من بينهم شيخُ الجماعة عبدُ القادر المجاوي .

فمن هُو عبدُ القادر المجاوي ؟

        قالت مجلـّة الشّهاب ( 3 \ 8 ) عند تقريظها لكتاب الجزائر للأستاذ توفيق المدنيّ : << إنّ الكتاب وُضع على الاختصار فما كنّا لنطالب مُؤلفه باستقصاء جميع الرّجال , ولكنّه سكت عن أفراد لا تكمل الصّورة التّاريخيّة إلاّ بهم , منهم العلاّمة الأستاذ عبد القادر المجاوي ــ رحمه الله ــ هذا الرّجل هو أبو النّهضة العلميّة بقسنطينة , وهو شيخ النّاس بجميع عمالتها , عليع تخرّج القضاة ورجالُ المحاكم والتدريس والفتوى فلا تجد وااحدا من هؤلاء إلاّ وهو من تلامذته , ولو كان هذا الرّجل من أمّة عالمة لأحيت ذكراه في كلّ مُناسبة . . . >> .

مولده ونشأته وطلبه للعلم :

        هو عبدُ القادر بن عبد الله بن محمّد الحسني الجليليّ المجاوي نسبة إلى قبيلة بشمال المغرب الأقصى , وُلد بتلمسان سنة 1264 هـ \ 1848 مـ في أسرة اشتهرت بالعلم والدين , كان والده فقيها وقاضيا تقلـّد خطة القضاء بتلمسان خمسا وعشرين سنة ثمّ في طنجة المغربيّة , وهُناك وفي تطوان أتمّ الابن عبد القادر حفظ القرآن الكريم ودراسته الابتدائيّة .

        وفي فاس : التحق عبدُ القادر بجامع القرويين الذي كان يشهدُ فترة النّهضة والدّعوة إلى تجديد طـُرق التعليم , وهي الإصلاحات التـّي طرأت على المغرب وتـُونس بعد احتلال الجزائر واحتكاك المُسلمين بالحضارة الغربيّة .

ومن شُيوخه الذين تخرّج عليهم وتأثر بهم :

        الفقيه الشّهير محمّد العلوي الفاسيّ , والشّيخ العلاّمة محمّد قنون ــ محشي الرهوني على خليل ــ  , والعلاّمة محمّد بن سودة , والعلاّمة المُحدّث محمّد بن جعفر الكتانيّ , وأحمد بن الحاج ــ محشي المكوديّ ــ .

ميدان التربيّة والتعليم :

        في سنّ 22 عاد إلى الجزائر وحلّ بقسنطينة سنة 1869 مـ مُدرّسا بزواياها ومساجدها , ثمّ تصدّر للتدريس بجامع الكتانيّ فأقبل على دُروسه الطلاب من جميع النواحي واتسعت شُهرته وظهرت كفاءته ومهارته , وتميّزت دُروسه ومواعظه بالحيويّة وغزارة العلم وقوّة التأثير وكان يحرص فيها على الدّعوة إلى النّهوض بالعلم .

        يقول الأستاذ القماريّ : << روى ( شارل فيرو ) أنّ الأوساط العلميّة بقسنطينة كانت تقول : أنّ العلم قد انطفأ عند المُسلمين بموت سي مُصطفى بن جلـّول وسي المكيّ بوطالبي . . . وبسبب الإدارة الفرنسيّة التـّي حرمت عامّة النّاس من نُور العلم جفت ينابيع العلم الحرّ وغاضت بحور الفكر , وكاد هذا الليل الطويل ألاّ ينجلي لولا نفحة هبّت من الغرب , ونعني بذلك حلول عبد القادر المجاوي للتدريس في أحد المساجد بقسنطينة . . . >>([5]) .

        وفي سنة 1877 مـ تولـّى التدريس بمدرسة قسنطينة وبعد سنة عيّنته الحكومة بمدرسة الجزائر العُليا .

        يقول الأستاذ محمّد الصّالح الصّدّيق : << لا شكّ أنّ الحُكومة إنّما عيّنته في هذه المدارس لتقلل من نشاطه الدّينيّ والإصلاحيّ الذي أخذ يُوقظ العُقول ويفتحُ الأبصار ويُوجّه نحو الطريق القويم , لأنّ هذا النّوع من النشاط أشدّ ما يُهدّد الاستعمار . . . >> . لكن كما قال الأستاذ القماريّ : << حقيقة أنّ السّلطات الفرنسيّة كانت تـُراقب هذا التعليم ولا تـُريده أن يتجاوز مبادئ الفقه والتوحيد الموجّهة للعامّة , ولكن المدرّس الماهر ذا الضّمير الحرّ يستطيعُ أن يُوصل رسالته إلى التلاميذ النبهاء والحاضرين المُتطلعين >>([6] ) .

        ويقول أيضا ( 3 \ 20 ) : << كان مسؤولوا هذا التعليم يُقاومون سرا وعلانيّة مُستخدمين كلّ الوسائل لتمرير رسالتهم التربويّة , ذلك أنّ التعليم ليس بالقلم والقرطاس فقط , ولكن بالمثل الأعلى والكلمات المعبّرة والتوجيه القويم والنّصائح الخالصة , وإذا كان الفرنسيون قادرين على مُراقبة التعليم العربيّ الإسلاميّ في المساجد والزوايا والمكاتب , فإنّهم غير قادرين على مُراقبة التربيّة والتوجيه  الصالح اللـّذين يبثهما المعلمون في تلاميذهم , ومن هؤلاء ستكون البذرة الخيّرة للنهضة والحركة الإصلاحيّة >> .

        ولذلك لم يقتصر الشيخ المجاوي ــ رحمه الله ــ على الدّروس النظاميّة فكان من عادته أن يختلط بطلابه خارج الدّرس لينفخ فيهم من روحه , وكانت علاقته بهم علاقة أبويّة تقوم على أساس المحبّة الخالصة والجهاد العلميّ النافع , فكان بذلك المثال للمعلـّم والقدوة والمُربي . . .

        يقول الأستاذ محمّد الصّالح الصّدّيق : << كانت طريقه معهم بهذا الاعتبار يملؤه نور وأمل , نور يكتسحُ الظلام , وأملٌ يُحفز إلى الأمام رغم فظاعة العهد الاستعماريّ الذي يعيشونه >> .

ومن تلامذته :

        الشيخ حمدان الونيسيّ , وهو من شيوخ ابن باديس الذين كان لهم أكبر الأثر في توجيهه , وتوجيه الحركة العلميّة والإصلاحيّة بقسنطينة , هاجر إلى المدينة النّبويّة في أواخر عمره بعدما أدّى ما عليه قبل الحرب الأولى وبها توفي ودُفن رحمه الله , ومنهم الشّيخ المولود بن الموهوب مُفتي قسنطينة , والشيخ عبد الكريم باش تارزيّ مُفتي الحنفيّة بقسنطينة , والشيخ حمود الدراجي قاضي الحنفيّة بالجزائر . . . وغيرهم .

نشاطه ودعوته :

        وكان الشيخ المجاوي إضافة إلى مهنة التدريس كثير النشاط في النوادي والجمعيّات المُعاصرة التي نشطت في أوائل القرن , وكانت جريدة ( كوكب إفريقيا ) للشيخ محمود كحول تنقل مُحاضراته وكتاباته إلى قرائها وكذلك جريدة ( المغرب )([7]) .

        وفي سنة 1908 عُيّن إماما وخطيبا بجامع سيدي رمضان بالعاصمة , وكان في دُروسه للعامّة التـّي انتشرت واستشرت فيها الجهل والخرافة مثالا للعالم النّاصح المُشفق , يقول الأستاذ محمّد الصّالح الصّديق : << كان يُوجّه الأنظار دأبا إلى أنّ الله تعالى قادر على أن يُعطي كلّ أحد ما يحتاجه من متع الحياة بلا عمل وكدح , ولكن حكمة الحياة أن نُكافح ونعمل لتكون للحياة لذة وحلاوة , فالحياة بلا جهاد وكفاح حياةٌ بلا معنى , والجهاد بكلّ معانيه المادّية والمعنويّة هو أساس الحياة , ومناط العزّ في هذه الأرض . . . >> . كما دعا إلى مُحاربة البدع والعمل بالسّنّة والانقياد إلى الحقّ .

        يقول محمّد الصالح الصّدّيق : << إنّه في هذه السعة العلميّة يُمثل النّزعة السّلفيّة ويرى أنّ الاقتداء بالسّلف الصّالح صيانة الدّين والعربيّة في الجزائر >> . وقال أيضا عن دعوته إلى تعليم المرأة : << خرق كلّ ما كان يجمع عليه أهل عصره من الفقهاء , فلم يكتف بالدّعوة إلى تعليمها بل دعا إلى تعليمها تعليما كاملا >> .

وفاته :

        بعد حياة طويلة من الصّبر والتضحية توفي الشيخ المجاوي يوم السبت 6 أكتوبر 1914 مـ بقسنطينة ودُفن بها , وكان يوم دفنه مشهودا حضره العلماء والطلاب والأعيان وحشد عظيم من طبقات النّاس , وألقيت خطب وقصائد شعريّة قيلت في حقه من بينها مرثيّة بليغة للشيخ ابن باديس . . . رحم الله الشيخ المجاوي وجزاه عن عمله خير الجزاء وأجزله .

مُؤلـّفاته :

        كثيرة , وكلها تعليميّة , والمطبوع منها : ــ إرشاد المتعلمين , ــ الإفادة لمن يطلب الاستفادة : طبعة الجزائر 1901 , ــ الاقتصاد السّياسي . ــ تـُحفة الأخيار في الجبر والاختيار . ــ الدرر النحويّة شرح الشبراويّة : طبعة فونتانا , الجزائر 1907 . ــ شرح الجُمل النحويّة : طبعة فونتانا . ــ شرح شواهد القطر : طبعة قسنطينة . ــ شرح لاميّة المجراديّة في المسائل النّحويّة : المطبعة البونيّة 1894 , والمجراديّة لأبي عبد الله محمّد بن مجراد . ــ شرح منظومة ابن غازي في الوقت . ــ الفريدة السنية في الأعمال الجيبيّة : في الفلك , طبعة فونتانا 1903 . ــ القواعد الكلاميّة . ــ اللمع في نظم البدع : وهو شرح لمنظومة تلميذه المولود بن الموهوب في البدع . ــ نزهة الطرف في المعاني والصرف . ــ نصيحة المريدين .

        هذا ما تسنّى جمعه من ترجمة الشّيخ عبد القادر المجاوي رحمه الله , وبه تنتهي المُقدّمة .

   الجزائر : صبيحة 22 رمضان 1427 هـ

                                              عادل بن الحاج همال الجزائريّ                                                                       



( 1 ) : مُلخصا بتصرّف وإضافة من كتاب << أعلام المغرب العربيّ >> لمحمّد الصّالح الصّدّيق ( 1 \ 30 ــ وما بعدها ) , وانظر لترجمته أيضا كتاب << تعريف الخلف >> للحفناويّ , وَ << نهضة الجزائر الحديثة >> لمًحمّد عليّ دبوز . 

 ( 2 ) : التـّاريخ الثقافيّ ( 8 \ 132 ) .

 ( 3 ) : يعني : بقاءهم مع بقيّة المأسُورين وفي ذلك تثبيت لهم . 

 ( 4 ) : أعلامُ المغرب العربيّ ( 1 \ 30 , 31 ) والقصّة ذكرها باختصار الحفناويّ في ترجمة عليّ بن الحفاف من كتابه تعريف الخلف , وساق رأي الشيخ الهامليّ في مسألة الهجرة .

 ( 5 ) : التاريخ الثقافيّ ( 3 \ 127 , 128 ) بتصرّف . 

 ( 6 ) : المصدر نفسه ( 3 \ 128 ) .[6](

( 7 ) : وقفتُ له على عناوين المقالات التالية : مشاهير العرب الذين تـُضرب بهم الأمثال , المعاش , العلم , العادة , الطيب العربي قبل الإسلام , الحلم , التربيّة , شهر المولد النبويّ , الكبر والعجب , سماحة النفس , عيد الأضحى أو موسم الحج, تعليم الأطفال , الأربعيات , سلامة الإنسان في حفظ اللسان . . .