الخوف من الله

إرسال إلى صديق طباعة PDF
تقييم المستخدمين: / 3
سيئجيد 

الخطبة الأولى

أما بعد..
أيها المؤمنون بالله ورسوله اتقوا الله فإن الله شديد العقاب ذو الطول لا إله إلا هو إليه المصير عباد الله اتقوا الله واحذروا عقابه وشديد عذابه وسخطه فإنه سبحانه وتعالى شديد العذاب قال الله جل ذكره: ﴿نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ` وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ﴾([1]). وقد حذركم الله سبحانه وتعالى نفسه في كتابه فقال: ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ﴾([2]). قال الإمام الطبري رحمه الله في تفسير هذه الآية: (( أي يخوفكم الله من نفسه أن تركبوا معاصيه أو توالوا أعداءه فإن إليه مرجعكم ومصيركم بعد مماتكم فإن خالفتم أمره نالكم من عقاب الله ما لا قِبل لكم به، فاتقوه واحذروه أن ينالكم ذلك منه فإنه شديد العقاب )). أيها المؤمنون إن الله تبارك وتعالى ببالغ حكمته فرض عليه خوفه وأوجبه قال جل ذكره: ﴿فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ﴾([3]) وقال سبحانه: ﴿فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي﴾([4]). بل قد جعل سبحانه وتعالى خوفه شرطاً لصحة الإيمان فقال سبحانه عز وجل: ﴿فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾([5]). وقد أنذركم الله أيها المؤمنون الأمن من مكره وعذابه فقال تعالى: ﴿وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ﴾([6]) وقال سبحانه: ﴿أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ – أي عملوا السيئات - أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ`أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ ` أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ﴾([7]) وقال سبحانه وتعالى: ﴿أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ `أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ ` أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ﴾([8]).
أيها المؤمنون إن الخوف من الله تعالى من أجل العبادات ومن أعظم القربات فهو الذي يحول بينكم وبين محارم الله عز وجل ومعاصيه فلله ما أعظمه، ولله ما أحوجنا إليه ولله ما أحسن عاقبته في الدنيا والآخرة إذ بالخوف يا عباد الله ينزع العبد عن المحرمات وبه يقبل على الطاعات فهو والله أصل كل فضيلة وباعث كل قربة.
وبالخوف أيها المؤمنون يستيقظ القلب من غفلته وينتفع بالإنذار ويتأثر بآيات القرآن قال الله تعالى: ﴿مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى ` إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى﴾([9])وقال سبحانه: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ﴾([10]).
عباد الله: إن الخوف من الله تعالى هو من أخص صفات عباد الله المتقين وأوليائه المحسنين: قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً﴾([11]) قال الإمام الطبري رحمه الله: ((المؤمن هو الذي إذا ذكر الله وجل قلبه وانقاد لأمره وخضع لذكره خوفاً منه وفرقاً من عذابه))([12]).
أيها المؤمنون لقد كان النبي شديد الخوف من الله عظيم الخشية له مع ما خصه الله سبحانه وتعالى به من الخصائص والفضائل والهبات ففي الصحيحين قال : ((فوالله إني لأعلمكم بالله وأشدكم له خشية))([13]). وعن عبدالله بن الشخير  قال: ((أتيت النبي وهو يصلي وله أزيز كأزيز المرجل من البكاء))([14]) رواه أحمد وغيره.
أيها المؤمنون هذا نبيكم غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر بلغ الغاية في العمل والطاعة ومع ذلك كله كان شديد الخوف من ربه حتى كان أكثر دعائه كما في جامع الترمذي: "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك" وكان من دعائه كما في صحيح مسلم: ((اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك))([15]) أما صحابته الكرام فهم الذين قال فيهم القائل:
إذا ما الليل أظلم كابدوه              فيسفر عنهم وهم ركوع
أطار الخوف نومهم فقاموا             وأهل الأمن في الدنيا هجوع
 
فسيرهم رضي الله عنهم حافلة بالعبر والعظات فهذا صديق هذه الأمة وأفضلها بعد نبيها المبشر بالجنة وعظيم المنة كان إذا قام إلى الصلاة كأنه عود من خشية الله تعالى، وهذا عمر بن الخطاب المبشر بالجنة قرأ سورة الطور حتى إذا بلغ ﴿إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِع﴾([16]) بكى واشتد بكاؤه حتى مرض وعاده الناس وكان يقول لابنه وهو في الموت: ويحك ضع خدي على الأرض عساه أن يرحمني، وهذا عثمان كان إذا وقف على القبر بكى حتى يبل لحيته أما جمهور الصحابة رضي الله عنهم فقد أخرج البخاري ومسلم من حديث أنس أنه قال: خطب رسول الله  خطبة ما سمعت مثلها قط فقال: ((لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً))([17]) قال أنس: فغطى أصحاب رسول الله وجوههم ولهم خنين. فرضي الله عنهم وأرضاهم ما أجمل فعلهم وأعذب ذكرهم.
عباد الله هذه نماذج من مخاوف القوم مع ما خصهم به الله تعالى من الرضا والغفران وتبشير بعضهم بالجنان. فليت شعري ماذا نقول وقد قست منا القلوب وأمنت منا المخاوف فلا بقرب الرحيل ننتبه ولا بآيات الله نتعظ فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
 

الخطبة الثانية

أما بعد..
اتقوا الله واعلموا أن من علامات خوف الله تعالى وخشيته عدم الأمن من عذاب الله وعقابه وسخطه قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ `وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ ` وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ ` وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ﴾([18]) فهؤلاء يا عباد الله قوم حسُنت أعمالهم وطابت سرائرهم وزكت قلوبهم واستقامت جوارحهم إلا أنهم مع ذلك لم يأمنوا عقاب الله وعذابه، فقلوبهم وجلة خائفة أنهم إلى ربهم راجعون.
وهذا يفسر لنا ما كان عليه النبي من شدة الحذر من عقاب الله والخوف من سخطه ففي صحيح مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: ((كان رسول الله إذا كان يوم الريح أو الغيم عُرف ذلك في وجهه وأقبل وأدبر فإذا مَطرت سُرَّ به وذهب عنه ذلك، قالت عائشة: فسألته فقال: إني خشيت أن يكون عذاباً سُلط على أمتي ))([19]) وفي رواية أخرى للبخاري قال لها لما سألته: (( يا عائشة ما يؤمنني أن يكون فيه عذابٌ، وقد عُذب قوم بالريح وقد رأى قومٌ العذاب، ﴿قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا﴾))([20]).
ولما كسفت الشمس في عهده خرج إلى المسجد مسرعاً فزعاً يجرُّ رداءه من شدة الفزع فقام بأصحابه قياماً طويلاً شديداً حتى جعلوا يخرون من طول القيام فاستكمل رسول الله في الركعتين أربع ركعات وأربع سجدات، رأى في صلاته تلك، الجنة والنار فلما فرغ من تلك الصلاة خطب خطبة عظيمة بليغة كان منها أن قال : ((أيها الناس إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة وادعوا الله وكبروا وتصدقوا، يا أمة محمد والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً))([21]) وفي رواية قال عن الكسوف: ((إنه من آيات الله تبارك وتعالى يعتبر بها عباده فينظر من يحدث منهم توبة))([22]).
فلا إله إلا الله ما أطيب قلوبهم وأزكى سرائرهم وأشد خوفهم وحبهم وتعظيمهم لربهم جل وعلا فإن هذه الآيات والعظات لا يعتبر بها إلا من عمر الخوف قلوبهم قال الله تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ﴾([23]) وقال سبحانه: ﴿وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ﴾([24]) أيها المؤمنون إنه لما ضعف إيماننا بالله وقلّ خوفنا منه وتعظيمنا له قست منا القلوب وساءت الأعمال وصدق في كثير منا قوله جل وعلا: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُون﴾([25]) فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وإنا لله وإنا إليه راجعون.
 


([1]) الحجر: 49 -50.
([2]) آل عمران: 28.
([3]) النحل: 51.
([4]) البقرة: 150.
([5]) آل عمران: 175.
([6]) الرعد: 13.
([7]) النحل: 45-47.
([8]) الأعراف: 97 -99.
([9]) طه: 2-3.
([10]) الزمر: 23.
([11]) الأنفال: 2.
([12]) تفسير الطبري ( 6 / 178 ).
([13]) أخرجه البخاري في الأدب من حديث عائشة رضي الله عنها بلفظ: "فوالله إني لأعلمهم بالله وأشدهم.." برقم 6101. وأخرجه مسلم في الفضائل برقم 2356.
([14]) أخرجه أحمد من حديث عبدالله بن الشخير رضي الله عنه برقم 15877.
([15]) أخرجه مسلم في القدر من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص برقم 2654.
([16]) الطور: 7.
([17])أخرجه البخاري في الجمعة من حديث عائشة رضي الله عنها برقم 1046 وأخرجه مسلم في الكسوف برقم 901.
([18]) المؤمنون: 57.
([19]) أخرجه مسلم في صلاة الاستسقاء من حديث عائشة رضي الله عنها برقم 899.
([20]) أخرجه البخاري في تفسير القرآن من حديث عائشة رضي الله عنها برقم 4829، والآية في الأحقاف: 24.
([21]) أخرجه البخاري في الجمعة من حديث عائشة رضي الله عنها برقم 1046 وأخرجه مسلم في الكسوف برقم 901.
([22]) أخرجه أحمد من حديث سمرة بن جندب برقم 19665.
([23]) هود: 103.
([24]) الذاريات: 37.
([25]) يوسف: 105.