دُعاء المخلوق غير التّوسّل به للخالق

إرسال إلى صديق طباعة PDF
تقييم المستخدمين: / 2
سيئجيد 

        << كان الأستاذ الزّاهري نقل عن سعادة الوزير العلاّمة الحجوي مقالا في شأن الشّيخ محمّد بن عبد الوهّاب ورأيُه في التّوسّل إلى الخالق بالمخلوق , ووقع الغلط في فهم رأيه ونسب إليه ما ليس من قوله , وقد بيّنت حقيقة المسألة بما نُشر في العدد الخامس من الصّراط , وقد أردنا ــ بمناسبة ما نشره الصّراط في المسألة ــ أن ننقل اليوم على صفحاته ما كان حرّره الأستاذ عبد الحميد ابن باديس في المسألة ونشره في ج الثّالث م الثّامن من مجلّته الشّهاب , ونصّه فيما يلي >> :

التُوجّه إلى الله , برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم

        قال أبو عيسى الترمذي : ( حدّثنا محمود بن غيلان  نا عثمان بن عمر  نا شعبة عن أبي جعفر عن عمارة بن خزيمة بن ثابت عن عُثمان بن حنيف أنّ رجلا ضرير البصر أتى النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال : ادع الله أن يُعافيني , قال : إن شئت دعوت وإن شئت صبرت فهو خير لك , قال فادعُه , قال فأمره أن يتوضّأ فيُحسن وُضوءه ويدعو بهذا الدّعاء : اللّهمّ إنّي أسألك وأتوجّه إليك بنبيّك محمّد نبيّ الرّحمة , إنّي توجّهت بك إلى ربّي في حاجتي هذه لتُقضى لي , اللّهمّ فشفّعه في ّ . هذا حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلاّ من هذا الوجه من حديث أبي جعفر وهو غير الخطمي ) .

        السّند : محمود بن غيلان ثقة من رجال البُخاري ومُسلم , عثمان ابن عمر هو ابن فارس العبدي المُتوفّى سنة ( 209 ) ثقة روى عنه السّتة وهو الرّاوي عن شُعبة ولهم عثمان بن عمر بن موسى التيمي مُتقدّم غير هذا , أبو جعفر هكذا عند الترمذي غير منسوب وقال فيه هو غير الخطمي يعني أبا جعفر يزيد بن عُمير الأنصاري الخطمي لكن ابن ماجه قال : ( حدّثنا أحمد بن منصور بن يسار  ثنا عثمان بن عمر ثنا شعبة عن أبي جعفر المدني إلى آخر السّند والمتن ) فصرّح بأنّ أبا جعفر هو المدني , وهذا هو أبو جعفر القارئ يزيد بن القعقاع , قال ابن سعد : كان ثقة قليل الحديث وكان إمام أهل المدينة في القراءة فسُمّي القارئ لذلك , عمارة بن خُزيمة بن ثابت الأنصاري روى له أصحاب السّنن الأربعة وثّقه النّسائي وابن حبّان وابن سعد . عثمان بن حنيف هو الأنصاري الأوسي الصّحابي المشهور .

        مُخرّجوا الحديث : رواه ابن ماجه في باب ما جاء في صلاة الحاجة من سُننه , والنّسائي والحاكم والبيهقي وابن خُزيمة والطّبراني .

        رُتبة الحديث العلميّة والعمليّة : قال فيه التّرمذي كما تقدّم حسن صحيح غريب , فالصّحيح ما رواه العدل الضّابط عن مثله إلى آخر سنده سالما من العلّة والشّذوذ , فإذا خفّ الضّبط في بعض رُوّاته فهو الحسن , وما يقول فيه أبو عيسى التّرمذي حسن صحيح أقوى ممّا يقول فيه حسن فقط , لأنّ وصفه بالصّحة مع وصفه بالحُسن يُفيد أنّ خفّة الضّبط في بعض رجاله تكاد لا تُؤثّر عليه حتّى كأنّها لم تحطّه عن رُتبة الصّحيح التّام , وأمّا الغريب فهو ما انفرد بروايته راو فقط , وإذا كان ذلك المُنفرد ثقة فذلك الانفراد لا يضرّ , فالغرابة لا تُنافي الصّحة والحُسن , وغرابته جاءته من انفراد أبي جعفر به كما تقدّم , وصحّحه أيضا ابن ماجه والحاكم والبيهقي والطّبراني , فبعد ما عرفنا من حال سنده وتصحيح هؤلاء الأئمّة له حصل لنا العلم الكافي ــ وهو الظّن الغالب ــ بثُبوته , وحيث كان بهذه المنزلة من الثبوت فإنّه صالح لاستنباط الأحكام الشّرعيّة العمليّة منه .

        ألفاظ المتن : زاد ابن ماجه بعد قوله ( فأمره أن يتوضّأ فيُحسن وُضوءه ) قوله ( ويُصلّي ركعتين ) ولذلك أخرجه في باب ما جاء في صلاة الحاجة , وهذه زيادة عدل فهي مقبولة , والأمر بالوُضوء ممّا يُؤيّدها وزاد النّسائي بعد قوله ( اللّهمّ شفّعه في ّ ) : ( وشفّعني في نفسي , فرجع وقد كشف الله عن بصره ).

        المُفردات : ( التّوجّه ) إلى الشيء هو القصد إليه فأتوجّه إليك أي أقصد إليك و( الباء ) في بنبيّك وفي إنّي توجّهت بك هي باء الاستعانة والمُستعان به هو السّبب المُحصّل للمُستعان عليه ولذلك جعل بعضهم باء الاستعانة من باء السّببيّة , فالنّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم مُستعان به على السّؤال أي على نجح السّؤال بحصول الشّيء المسئول من الله تعالى ومُستعان به على التّوجّه بمعنى القصد أي على نجح ذلك القصد بحصول المطلوب منه تعالى فهو مُتوصّل به إلى نجح السّؤال ونجح القصد وكلّ ما يُتوصّل به إلى الشّيء يُقال فيه وسيلة إليه فالسّؤال به توسّل به فيُمكن أن تُسمّى هذه الباء باء التّوسّل وهي الدّاخلة على ما هو وسيلة في حُصول شّيء , و( الهاء ) في قوله فادعه , هاء السّكت أو ضمير عائد على الله تعالى , ( الشّفاعة ) سُؤال الخير لغير السّائل فقوله شفّعه فيّ , أي اقبله فيّ أي اقبل دعاءه وسُؤاله لي .           التّراكيب : قوله أسألك وأتوجّه إليك بنبيّك وقوله إنّي أتوجّه بك يحتمل أن يكون على ظاهره بالسّؤال والتّوجّه والتّوسّل بذات النّبيّ صلّى الله عليه وآله سلّم نظرا لمقامه عند الله تعالى ويكون هذا نظير قول القائل أسألك بالله من قوله تعال : (<< واتّقوا الله الذي تسّاءلون به >>) وفي سنن أبي داود والنّسائي مرفوعا : << ومن سألكم بالله فأعطوه >> وقول القائل أسألك بالرّحم من قوله تعالى : (<< والأرحام >>) بالجرّ في قراءة الشّاميين , وقول عائشة لفاطمة رضي الله تعلى عنهما << عزمت عليك بما لي عليك من الحق لمّا حدّثتني ما قال لك رسول الله صلّى الله عليه وآله سلّم >> ويُحتمل أن يكون على تقدير مُضاف هكذا بدعاء نبيّك في العبارة الأولى وبدُعائك في العبارة الثّانيّة لأنّه إنّما سأله أن يدعو له فيكون التّوسّل بدعائه ولقوله فشفّعه في أي قبل دعائه لي , وجُملة فشفعه معطوفة على جملة أسألك , وجُملة إنّي توجّهت بك مُعترضة بين المُتعاطفين .

        المعنى : هذا رجل أعمى جاء إلى النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم يسأله أن يدعو الله تعالى له أن يشفيه من العمى , فخيّر بين أن يدعو له وأن يصبر على بلواه وأخبره أنّ الصّبر خير له من جهة الأجر والمثوبة فاختار الرّجل أن يدعو له فأمره أن يتوضّأ وُضوءا حسنا مُستكملا لفرائضه وفضائله في ظاهره وباطنه وأن يُصلّي ركعتين ويدعو بالدّعاء المذكور والظّاهر أنّه بعد الفراغ من الرّكعتين مثل ما جاء في دُعاء الاستخارة بعد ركعتيها . وكان الدّعاء سُؤالا من الله تعالى وتوجّها إليه وتوسّلا بنبيّه أو بدُعائه وثناء على النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بما بعثه الله به من الرّحمة المُناسب ذكرها غاية المُناسبة في مقام الدّعاء والتّوسّل وخطابا له عليه السّلام بأنّه توجّه به إلى ربّه لتُقضى حاجته ثمّ رُجوعا إلى سُؤال الله تعالى أن يقبل فيه شفاعة النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم .

        سؤال : الرّجل اختار أن يدعو له فأمره أن يتوضّأ ويُصلّي ويدعو بذلك الدّعاء ولم يدع هو له مع أنّه قد قال له في التّخيير إن شئت دعوت وإن شئت صبرت ؟

        جوابه : الظّاهر أنّه دعا له وإن لم يُصرّح بذلك في متن الحديث لقول الأعمى اللّهمّ شفعه فيّ , أي : اقبل دعاءه وسُؤاله لي .

        الأحكام : لم يدع الأعمى النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ولم يسأله أن يشفيه هو لأنّ الدّعاء لقضاء الحوائج وكشف البلايا ونحو ذلك هو العبادة وفي حديث النّعمان بن بشير المرفوع ( الدّعاء هو العبادة ) رواه أحمد وأصحاب السّنن , والعبادة لا تكون إلاّ لله لم يدعه لا وحده ولا مع الله لأنّ الدّعاء لا يكون إلاّ لله , وهذا بخلاف ما يفعله الجهّال والضّلال من طلبهم من المخلوقين من الأحياء والأموات أن يُعطوهم مطالبهم ويكشفوا عنهم بلاياهم , وإنّما سأله أن يدعو له الله تعالى أن يُعافيه وهذا جائز أن يسأل المُؤمن من أخيه في حال حياته أن يدعو الله تعالى له ومن هذا حديث البخاري في سُؤال أمّ أنس بن مالك من النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أن يدعو لأنس خادمه , فدعا له , ومن هذا ما رواه التّرمذي وأبو داود عن عمر بن الخطّاب قال : استأذنت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في العُمرة فأذن لي وقال : أشركنا يا أخي في دُعائك ولا تنسنا , زاد في رواية التّرمذي فقال كلمة ما يسرّني أنّ لي بها الدّنيا , يعني قوله أشركنا الخ , ثمّ إنّه توسّل بذاته بحسب مقامه عند ربّه وهذا على الوجه الأوّل من الوجهين المُتقدّمين في فصل التّراكيب أو توسّل بدعائه وهذا على الوجه الثاني منهما فمن أخذ بالوجه الأوّل قال يجوز التّوسّل بذاته ومن أخذ بالوجه الثاني قال إنّما يتوسّل بدعائه ثمّ إنّ من أخذ بالوجه الأوّل فهذا الدّعاء حكمه باق بعد وفاته كما كان في حياته ومن أخذ بالوجه الثاني لا يكون بعد وفاته لأنّ دعاءه إنّما كان في حياته لمن دعا له , فالوجهان المُتقدّمان ــ كما ترى ــ هما مثار الخلاف في جواز التّوسّل بذاته وعدم جوازه فمن أخذ بالوجه الأوّل جوّز ومن أخذ بالثاني منع .

        سؤال : فإن قلت قد عرفنا القولين وعرفنا مدركهما فما هو الرّاجح عندك منهما ؟

        جوابه : الرّاجح هو الوجه الأوّل الذي يُجيز السّؤال بذات النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم نظرا لمقامه العظيم عند ربّه لوجهين , الأوّل : أنّ ذلك هو ظاهر اللّفظ ولا مُوجب للتّقدير ولا مُنافاة بين أن يكون في قوله أسألك وأتوجّه إليك بنبيّك وقوله إنّي توجّهت بك قد سأل بذاته وفي قوله اللّهمّ شفعه في قد سأل قبول دعائه وسُؤاله , والثاني : أنّه لمّا كان جائزا السؤال من المخلوقين بما له مقام عظيم عندهم فلا مانع من أن يسأل الله تعالى بنبيّه بحسب مقامه العظيم عنده .

        سؤال آخر : بعد ما رجّحت جواز التّوسّل بذاته صلّى الله عليه وسلّم نظرا لمقامه العظيم عند الله تعالى فهل يُقاس عليه غيره من كلّ ذي مقام عند الله تعالى , فيُتوسّل به أو يكون هذا مقصورا عليه ؟

        جوابه : القياس في باب العبادات ضعيف وإذا ارتكب هنا فلا يُقاس عليه إلاّ كلّ ذي مقام مُحقق عند الله تعالى .

        سؤال آخر : بعدما عرفنا حكم سّؤال الله تعالى بأهل المكانة عنده من مخلوقاته فهل الأفضل هو سُؤاله بمخلوقاته أو سُؤاله بأسمائه وصفاته وأعمال العبد في طاعاته ؟

        جوابه : الأفضل هو سُؤاله تعالى بأسمائه وصفاته وأعمال العبد في أنواع طاعاته , وذلك لوجهين : الأوّل أنّ ذلك هو مُقتضى النّص القرآني الصّريح القطعي في قوله تعالى : (<< ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها >>) ويشمل ذلك تسميته بها ونداءه بها وسُؤاله بها , الوجه الثاني : ما جاء في السّنة العمليّة في أحاديث كثيرة ثابتة مُستفيضة كان سُؤاله تعالى فيها كلّها بأسمائه وصفاته منها حديث ( أسألك الله بكلّ اسم هو لك سمّيت به نفسك الخ ) رواه أحمد في مُسنده عن عبد الله بن مسعود ومنها حديث رجل كان يُصلّي في المسجد فقال اللّهمّ إنّي أسألك بأنّ لك الحمد لا إله إلاّ أنت الحنّان المنّان بديع السّماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا حيّ يا قيّوم أسألك , فقال النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ( دعا الله باسمه الأعظم الذي إذا دُعي به أجاب وإذا سُئل به أعطى ) , رواه أصحاب السنن الأربعة من طريق أنس , ومنها حديث ( إنّي أسألك بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق ) رواه النّسائي والحاكم من طريق عمّار بن ياسر وهكذا سائر الأحاديث التي جاءت في هذا الباب كلّها مُتواترة على دُعاء الله تعالى بأسمائه وصفاته , وهي كلّها تحقيق وبيان لقوله تعالى (<< ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها >>) هذا كلّه في دُعائه تعالى بأسمائه وصفاته وأمّا ما جاء في دُعائه والتّوسّل إليه بعمل العبد في أنواع طاعاته فمنها حديث بُريدة أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم سمع رجلا يقول اللهم إنّي أسألك بأنّي أشهد ( والشّهادة عمل العهد ) أنّك أنت الله لا إله إلاّ أنت الأحد الصّمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفؤا أحد فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ( لقد سألت الله بالاسم الأعظم الذي إذا سُئل به أعطى وإذا دُعي به أجاب ) , رواه أبو داود والتّرمذي وحسّنه وابن ماجه وابن حبّان في صحيحه والحاكم إلاّ انّه قال ( لقد دعوت الله باسمه الأعظم ) وقال صحيح على شرط الشّيخين قال الحافظ عبد العظيم المُنذري قال شيخنا الحافظ أبو الحسن المقدسي وإسناده لا مطعن فيه ومنها حديث الثلاثة الذين آووا إلى غار فانحطّت على فم غارهم صخرة من الجبل فانطبقت عليهم فقال بعضهم لبعض انظروا أعمالا عملتموها صالحة لله فادعوا الله تعالى بها لعلّه يُفرّجها عنكم , فدعا أحدهم ببروره والديه فانفرجت منها فرجة ودعا الثاني بعفته عن الزّنا بعدما كاد فانفرجت فُرجة ودعا الثالث بوفائه لأجيره فانفرجت البقيّة وهذا حديث صحيح مشهور رواه الشّيخان وغيرهما ومن ذلك حديث سارة زوج إبراهيم عليه السّلام لمّا مدّ الجبّار الظالم إليها يده يُريدها على السُوء قامت توضّأ وتُصلّي وقالت اللهمّ إن كنت آمنت بك وبرسولك وأحصنت فرجي إلاّ على زوجي فلا تُسلّط عليّ الكافر , فغط حتّى ركض برجله فقالت اللّهمّ إن يمت يُقال هي قتلته فأرسل فعاد إليها وعادت إلى الدّعاء كالمرّة الأولى وفي الثالثة تركها وقال أرجعوها إلى إبراهيم , رواه مُفصّلا البُخاري في كتاب البيوع من صحيحه من طريق أبي هريرة , فانظر إليها كيف توسّلت لربّها بإيمانها الذي هو أشرف أعمالها وبعفّتها وإحصانها لفرجها , ولم تتوسّل إليه برسوله وخليله زوجها إبراهيم عليه الصّلاة والسّلام .

        سُؤال آخر : بعدما عرفنا رُجحان سُؤاله تعالى بالأسماء والصّفات والطّاعات  فهل ثبت عن الصّحابة سُؤالهم وتوسّلهم بذاته ؟

        جوابه : لم يثبت عن واحد منهم شيئا من ذلك فيما لدينا من كُتب السّنة المشهورة بل ثبت عُدولهم عن ذلك في وقت مُقتض له لو كانوا يفعلونه وذلك في حديث استسقاء عُمر بالعبّاس رضي الله تعالى عنهما فقد أخرج البخاري في صحيح بسنده عن أنس أنّ عمر بن الخطّاب رضي الله عنه كان إذا قحطوا استسقى بالعبّاس بن عبد المُطّلب فقال اللّهمّ إنّا كنّا نتوسّل إليك بنبيّنا صلّى الله عليه وسلّم فتسقينا وإنّا نتوسّل إليك بعمّ نبيّنا فاسقنا  , قال فيُسقون , ومعنى الحديث أنّهم كانوا يتوسّلون بالنّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم يدعو لهم في الاستسقاء ويدعون ثمّ صاروا يتوسّلون بالعبّاس فيدعو لهم ويدعون فالتّوسّل هنا قطعا بدُعائهما لا بذاتهما . ووجه الاستدلال بالحديث على مرجوحيّة التّوسّل بالذات أنّ الصّحابة لم يقولوا في موقفهم ذلك اللّهمّ إنّا نتوسّل إليك بنبيّنا أي بذاته ومقامه بل عدلوا عن ذلك إلى التّوسّل بالعبّاس يدعو لهم ويدعون كما كان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم  يفعل في الاستسقاء ولقد استدلّ بعضهم بعدول الصّحابة عن التّوسّل بذات النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في هذا المقام على منعه ونحن لمّا بيّنا قبل من دليل جوازه إنّما نستدلّ بعدولهم على مرجوحيّته .

        سُؤال آخر : قد عرفنا فيما تقدّم مشروعيّة سُؤال المُؤمن من أخيه في حياته أن يدعو له فهل يُشرع الذهاب إلى القبر وطلب الدّعاء من الميّت ؟

        : جوابه : لو كان هذا جائزا لفعله الصّحابة في الحديث المُتقدّم ولذهبوا لقبر النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يسألونه أن يدعو لهم كما كان يدعو لهم في حياته ولم يرد في حديث عن واحد منهم أنّه كان يذهب إلى القبر النّبوي ويطلب منه صلّى الله عليه وسلّم أن يدعو له بل جاء عن ابن عمر ــ وهو من عُرف بشدّة اتّباعه وتحرّيه ــ أنّه كان يقف فيُسلّم على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ثمّ على أبي بكر ثمّ على عمر رضي الله تعالى عنهما ثمّ ينصرف لا يزيد شيئا خرّجه مالك في الموطّأ .

        تلخيص وتحصيل : تحصّل لنا من جميع ما تقدّم ( 1) : أنّ دُعاء المخلوق وحده أو مع الله ممنوع . ( 2 ) : وأنّ التّوسّل بدعائه في حياته وهو من المؤمنين مطلوب ومشروع . ( 3 ) : وأنّ التّوسّل بذات النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم جائز مرجوح . ( 4 ) : وأنّ التّوسّل بذات غيره من أهل المكانة المُحققة له وجه في القياس . ( 5 ) : وأنّ التّوسّل بذات غيره ممّن ليس لنا اليقين القاطع بمقامه لا وجه له . ( 6 ) : وأنّ طلب الدّعاء منه بعد موته بدعة لم يفعلها الصّحابة . ( 7 ) : وأنّ الرّاجح في التّوسّل إلى الله هو التّوسّل إليه بأسمائه وصفاته وأعمال العبد في أنواع طاعاته .

        هذه سبع مسائل كثر فيها هذه الأيّام القال والقيل وتعرّض لها من الكُتّاب الأصيل والدّخيل وقد منّ الله بتحريرها على هذا الوجه الذي لم أره لغيري وقد كنت في تحريرها علم الله باحثا مُنصفا مُتجرّدا فما كان فيها من حق وصواب فهو من الله وما كان فيها ــ عياذا بالله ــ من باطل وخطأ فهو منّي وأستغفر الله والخير قصدت وحسبنا الله ونعم الوكيل .

(الصّراط السّوي العدد التّاسع )