لا لوم على من صدق المتاب

إرسال إلى صديق طباعة PDF
تقييم المستخدمين: / 3
سيئجيد 

لا لوم على من صدق المتاب ([1])

مُحاجّة آدم وموسى عليهما السّلام

        << عن أبي هُريرة رضي الله عنه أنّ رسُول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال : تحاجّ آدمُ ومُوسى , فحجّ آدمُ مُوسى , قال موسى أنت آدم الذي أغويت النّاس وأخرجتهم من الجنّة , فقال له آدمُ أنت مُوسى الذي أعطاهُ الله علم كلّ شيء واصطفاه على النّاس برسالته ؟ قال : نعم , قال : أفتلومُني على أمر قد قدّر عليّ قبل أن أخلق ؟ >> رواه الأئمّة .

تمهيد :

        الأنبياء ــ عليهم الصّلاة السّلام ــ بعد موتهم الدّنيوي أحياء حياة برزخيّة روحيّة أسمى وأرقى من حياة غيرهم بمُقتضى كمالاتهم ومقاماتهم فتتلاقى أرواحهم في العالم العُلوي القدسي ويكون بينها التّعارف والتّخاطُب , وعلى هذا الوجه وقعت هذه المُحاجّة بين آدم ومُوسى عليهما السّلام , وقصّها النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم لنستفيد ما فيها من العلم ونقتدي بما فيها من عمل .

الألفاظ :

        تحاجّ : تنازعا وذكر كلّ واحد حُجّته , فحجّ آدمُ مُوسى : غلبه في الحُجّة , أغويت النّاس : أضللتهم أي كنت سببا في إخراجهم إلى الأرض فأغوتهم وأضلتهم الشّياطين , وأخرجتهم أي كنت سببا في إخراجهم بأكلك من الشّجرة , علم كلّ شيء : أي ممّا يحتاج إليه في هداية النّاس , واصطفاه على النّاس : من غير المُرسلين , قدّر عليّ : أي سبق به علم الله ومضت به إرادته في الأزل .

المعنى :

        التقى هذان النّبيان  الكريمان التقاء روحيا في العالم العلوي فوجّه موسى إلى آدم لومه على ما كان منه من الأكل من الشّجرة والمُخالفة ممّا أدّى إلى إخراجه من الجنّة فنسل ذرّيته بالأرض فكان سببا في خُروجهم إليها وتمكّنت منهم الشّياطين في دار التكليف فأغوت وأضلّت من أغوت وأضلّت منهم وكان ذلك كلّه بسببه , فدفع آدمُ هذا اللّوم بأنّ ما كان منه كان مقدرا عليه قبل أن يخلق فلا لوم عليه فيه إذ لا دخل له في التّقدير وعرض آدمُ لموسى بأنّه ما كان ينبغي له أن يكون منه هذا اللّوم على المُقدّر مع علوّ مقامه بالعلم والاصطفاء , فغلب آدمُ موسى وقامت حُجّتُه عليه .

بسط وبيان :

        دلّت الأدلّة القطعيّة أنّ ما يكون من العبد سبق به علم الله ومضت به إرادته وكُتب عليه قبل أن يُخلق (<< إنّا كلّ شيء خلقناه بقدر >>) (<< وكلّ شيء فعلوه في الزّبُر >>) (<< ما أصاب من مُصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلاّ في كتاب من قبل أن نبرأها >>) كما دلّت الأدلّة القطعيّة على أنّ الإنسان مُؤاخذ بعلمه ملُوم لما عنده من التّمكّن وما له من الاختيار (<< لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت >>) (<< لم تقولون ما لا تفعلون >>) وأنّه لا مُؤاخذة عليه بعد التّوبة ولا لوم (<< إلاّ من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يُبدّلُ الله سيّئاتهم حسنات >>) .

        وآدمُ عليه السّلام كانت منه المُخالفة على التأويل وتاب الله عليه وكلّ ذلك قد كان في حياته فلم يبق عليه لوم بعد ذلك المتاب فلمّا لامه مُوسى لم يكُن سبب اللّوم من ناحيته ــ وهو المُخالفة ــ قائما لزواله بما كان من التّوبة , ولم يبق إلاّ التّقدير السّابق وهو لا دخل له فيه فكيف يُلامُ فقامت حُجّتُه على مُوسى بسبب انعدام ما يُوجبُ عليه اللّوم وهو المُخالفة فكان لومُ موسى في غير محلّه .

دفعُ شُبهة :

        قد احتجّ آدمُ بالقدر السّابق فنهضت حُجّته , فهل يحتجّ كلّ مُخالف بالقدر السّابق فتنهضُ حُجّتُه ؟ كلاّ , فإنّ الأدلّة القطعيّة المُتقدّمة تمنعُ من ذلك منعا قاطعا , والتّحقيق أنّ المخالف له حالتان : حالة التّوبة الصّادقة التّي أسقطت المُؤاخذة وهذه هي حالة آدمُ التّي احتجّ فيها فنهضت حُجّتُه , وحالة عدم التّوبة وهذه لا حُجّة فيها بالقدر لوُجُود المُؤاخذة بالعمل المُكتسب , وآدمُ وإن لم يذكُر توبتُه بمقاله فهي مفهومة من حاله معروفة ممّا أنزله الله من كُتُبه على موسى وغيره .

دفعُ شُبهة أخرى :

        فإذا كان آدمُ لا لوم عليه لسُقوط المُؤاخذة بالتّوبة فكيف لامه مُوسى ؟ والجوابُ أنّ موسى لا يجهل هذا ولكنّه غافل عنه أو غفل عمّا كان من آدم من التّوبة وتجُوز عليه الغفلة وهو ليس في دار التّكليف ولا في مقام التّبليغ , فلمّا ذكر آدم دليله ذكر  موسى ما غفل عنه فسلّم .

اقتداء :

        المُناظرة في العلم والدّين والمُحاجّة بالحقّ من الأصول الشّرعيّة والكمالات الإنسانيّة لا يتعالى عنها كبير لكبره , ولا يُحتقرُ فيها صغير لصغره , فالحقّ هو الحقّ على أيّ لسان ظهر , والحُجّة هي الحُجّة من أيّ ناحية قامت , وعلى هذا الأصل حاجّ موسى آدمُ وهو أبوه .

        ومن حقّ المُناظر أن يذكُر كلّ ما يراه من الحُجّة الحقة لإثبات قوله ولو كان فيه ثقل على خصمه وعلى هذا الأصل نسب مُوسى لآدم الإغواء والإخراج ــ وإن لم يكن من فعله ــ لأنّه مُتسبّب عنه .

        ومن الواجب على من لاح له الحقّ في حُجّة خصمه أن يسكُت ويُسلّم , فقد علمنا أنّ النّبيّان الكريمان كيف يعتمد على الحُجّة في البداية وكيف يخضع لها في النّهاية والقدوة هما صلّى الله وسلّم عليهما .    

       



    مجلّة الشّهاب , الجّزء الخامس من المُجلّد الخامس عشر . : ( [1] )