الغاية التي أنشأت من أجلها جمعية العلماء

إرسال إلى صديق طباعة PDF
تقييم المستخدمين: / 0
سيئجيد 

 

من الخطاب النفيس الذي ألقاه نائب رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين الأستاذ الإبراهيمي في الاجتماع العام لهذه الأخيرة , نقلا عن جريدة الشريعة في عددها الرابع الصادر يوم الاثنين 15 ربيع الأول 1352 ه الموافق ل 7 أوت 1933 م : 

        إنّ جمعيتكم هذه أسست لغايتين شريفتين لهما في قلب كل عربي مسلم بهذا الوطن مكانة لا تساويها مكانة و هما إحياء مجد الدين الإسلامي و إحياء مجد اللغة العربية .

        فأمّا إحياء مجد الدين الإسلامي فبإقامته كما أمر الله أن يقام بتصحيح أركانه الأربعة العقيدة والعبادة و المعاملة والخلق , فكلكم يعلم أنّ هذه الأركان قد أصبحت مختلة و أنّ اختلالها أوقعنا فيما ترون من مصائب و بلايا و آفات .

        اختلت العقائد و لابسها هذا الشوب من الخرافات و المعتقدات الباطلة فضعفت ثقتنا بالله و وثقنا بما لا يوثق به .

        واختلت العبادات فخوت النفوس من تلك الآثار الجليلة التي هي سرّ العبادة و التي هي الباعث الأكبر على الكمال الروحي .

        واختلت الأحكام فانتهكت الحرمات واستبيحت المحرمات وتفككت روابط الأسرة الإسلامية وقطعت الأرحام و تعادى المسلمون و تباغضوا وتنكر الأخ لأخيه

        وضعف الوازع الديني الذي يهيئ النفوس للانطباع بطابع واحد فأصبحت مستعدة للتكيف بما يقبح وما يحسن ــ ثم غلب ما يقبح على ما يحسن فخرجت الفضيلة الإسلامية من عقل المسلم و من نفسه وحلت محلها الرذيلة ــ ثمّ جاء الاحتكاك بالأجانب عن هذا الدين و معهم عاداتهم و أخلاقهم فوجدت السبيل ممهدا و وجدت نفوس المسلمين عورات بلا مدافع ولا محام فتمكنت فيها ومكنت لغيرها والشرّ يعدي , وكان من نتائج ذلك ما ترون من انحلال وتفكك .

        ولو كنّا نعبد الله حقّ عبادته و نبني العبادة الخالصة على عقيدة خالصة ــ لكان من آثار تلك العبادة في نفوسنا ما يقيها من شرور هذه العوائد العادية

        واختلت الأخلاق وفي اختلالها البلاء المبين و إنّ الأخلاق في دينكم هي شعب الإيمان فلا يختلّ خلق إلاّ وتضيع من الإيمان شعبة ــ وقد أجمع حكماء الأمم على هذه الحقيقة التي قررها الإسلام بدلائله وأصوله وهي أنّ الأمم لا تقوم و لا تحفظ و جودها إلاّ برسوخ الأخلاق الفاضلة في نفوس أفرادها ــ

        ولهذا نرى الإسلام يأخذ في شرطه على أبنائه أن يتآمروا بالمعروف ويتناهوا عن المنكر و يبدئ في هذا المعنى و يعيد و يضرب الأمثال و يبين الآثار ويلفت النفوس إلى الاعتبار بمن مضوا و إلى سنن الله الخالية فيهم .

        لو لم يكن من أصول دينكم أيها الإخوة و تعاليمه إلاّ هذا الأصل ــ وهو الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر لكفاه دلالة على أنه دين اجتماع و عمران و حياة و بقاء و لو لم نضع فيما أضعنا من تلك الأصول إلاّ هذا الأصل لكفانا مقتا و استحقاقا لغضبه و استبداله بنا قوما غيرنا .

        وأمّا إحياء مجد اللسان العربي فلأنه لسان هذا الدين و المترجم عن أسراره و مكنوناته ــ لأنّه لسان القرآن الذي هو مستودع الهداية الإلهية العامة للبشر كلهم ــ لأنّه لسان محمد بن عبد الله صلى الله عليه و سلم صفوة الله من خلقه و المثل الأعلى لهذا النوع الإنساني الذي هو أشرف مخلوقات الله ــ ولأنه لسان تاريخ هذا الدين و مجلي مواقع العبر منه ، و لأنّه قبل ذلك و بعد ذلك لسان أمة شغلت حيزا من التاريخ بفطرتها و آدابها و أخلاقها وحكمها و أطوارها و تصاريفها في الحياة و دولها في الدول وخيالها اللامع الخاطف الذي هو أساس فنّها و آرائها في عالمي الكون و الفساد .

        وكلكم يعلم أنّ هذا اللسان ضاع من بيننا فأضعنا بضياعه كل ذلك التراث الغالي النفيس من دين وتاريخ ــ و إنّ اللغة هي المقوم  الأكبر من مقومات الاجتماع البشري و ما من أمة أضاعت لغتها إلاّ وأضاعت وجودها واستتبع ضياع اللغة ضياع المقومات الأخرى . ويأبى لكم الله والإسلام أن تضيعوا لغة كتاب الله و لغة الإسلام .

        يأبى لكم الله إلاّ أن ترجعوا إليها لا لتحيوها بل ــ لتحيوا بها الفضيلة الإسلامية في نفوسكم ولتحيوا بها الحياة التي يريدها الله منكم فجمعيتكم ــ بعون الله و بفضل هممكم تركّب لهاتين الغايتين من الوسائل كل ممكن فمن محاضرات و دروس عامة إلى دروس خاصة إلى تنشيط و إرشاد لهذين و هي تعتقد في الإعانة على القيام بهذا العهد الذي قطعته على نفسها ــ بعد الله على كل من يصله صوتها من أبناء هذه الأمة ــ و هي تعتقد أنّها لا تستغني عن الإعانة من أنصارها مهما قلّت و أنّها لا تستغني عن حنكة الشبب و تجاريبهم ولا عن اعتدال الكهول و حكمتهم ـ ولا عن نشاط الشبان وفتوتهم ــ و إنّ تكافل هذه القوى الثلاث سيخرج للأمة الجزائرية جيلا مزودا بالإسلام الصحيح وهدايته والبيان العربي وبلاغته عارفا بقيمة الحياة سباقا في ميادينها متحليا بالفضائل عزوفا عن الرذائل عارفا بما له و ما عليه واقفا في مستقر الحقيقة الواقع لا في ملعب الخيال الطائر.                                                            أيها الإخوة الكرام , ليس من معنى سعي جمعيتكم لهاتين الغايتين أنّها تعرض عمّا سواهما و أنّها لا تقيم الوزن لهذه العلوم التي أصبحت وسائل للحياة أوهي الحياة نفسها ــ كما ظنّه الظانّون بهذه الجمعية فظنوا بها ظنّ من لم يفهم شيئا من حقيقتها ـ فهي تعمل للغايتين و تعمل لما وراء الغايتين من كل نافع مفيد لا ينافي كليات الإسلام و أصوله.

        وإنّ في سماحة الإسلام الذي ندعو إليه و فيما هو مقرر في مقاصده من عدم التحجير على العقول أن تفكر وعلى الأيدي أن تعمل وعلى الأرجل أن تسعى وعلى الألسن أن تتـفتق بكلّ مفيد ــ إنّ في كلّ ذلك لجوابا للظانين وردا على ما ظنّوه .