مجالس التّذكير : مُلك النّبوّة

إرسال إلى صديق طباعة PDF
تقييم المستخدمين: / 1
سيئجيد 

نقلا عن مجلّة الشّهاب في جُزئها الثاني من المجلّد الخامس عشر , الصّادر في غُرّة صفر 1358 هجريّة الموافق ل 23 مارس 1939 للميلاد :

مجالس التّذكير من كلام الحكيم الخبير وحديث البشير النّذير

وذكّر فإنّ الذكرى تنفع المؤمنين

الكتاب الكريم : مُلك النّبوّة

مجمع الحق والخير , ومظهر الجمال والقوّة

(<< ولقد آتينا داود وسُليمان علما وقالا الحمد لله الذي فضّلنا على كثير من عباده المُؤمنين >>)

        تمهيد : النّبوّة منزلة من الكمال التّام البشري يُهيّئ الله لها من يشاء من عباده فيكون بذلك مُستعدّا لتلقي الوحي والاتّصال بعالم الملائكة ولتحمّل أعباء ما يُلقى إليه وتكاليف تبليغه بالقول والعمل , وتحمّل كلّ بلاء يلقاه في سبيل ذلك التّبليغ , والمُلك ولاية على المُجتمع لحفظ نظامه , تقتضي عموم النّظر وشُمول التّصرّف في روابط النّاس ومُعاملاتهم وتصرّفاتهم , وتسييرهم في ذلك كلّه على أصول عادلة تُوصل كلّ أحد إلى حقه وتكفيه عن حق غيره , ليعيشوا في رخاء وسلام , ويبلغوا غاية ما يستطيعون من متع الحياة .

        وقد يتّصف الشّخص بالنّبوّة دون الملك فيكون مُبلّغا عن الله ولا يكون له التنفيذ والإرادة والتّنظيم ، وقد يتّصف الشّخص بالمُلك دون النّبوّة , وقد وُجد الشّخصان في شمويل وطالوت فكان الأوّل نبيّا وكان الثاني ملكا كما قال تعالى : (<< وقال لهم نبيّهم إنّ الله قد بعث لكم طالوت ملكا >>) وقد يجمع بينهما مثل داود وسُليمان عليه السّلام , ثمّ إنّ المُلك قد تكون الأصول التي يستند إليها مُستمدّة من أوضاع البشر لحفظ مصالحهم في الحياة الدّنيا فيكون ملكا بشريا , وقد تكون تلك الأصول مُستمدّة من وحي الله بما فيه حفظ مصالح العباد في الدّنيا وتحصيل سعادتهم فيها وفي الأخرى فيكون مُلك نُبوّة .

        ومن طبيعة مُلك النّبوّة التزام الحق ونُصرته حيثما كان , بإقامة ميزان العدل في القوم والحكم والشّهادة بين النّاس أجمعين المُعادين والموالين كما قال تعالى : (<< وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قُربى ــ وإذا حكمتم بين النّاس أن تحكموا بالعدل ــ ولا يجرمنّكم شنئان قوم على أن لا تعدلوا , اعدلوا هو أقرب للتّقوى ــ يا أيّها الذين آمنوا كونوا قوّامين بالقسط شُهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيّا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتّبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلوُوا أو تُعرضوا فإنّ الله كان بما تعملون خبيرا >>) وبالوفاء بالعقود والعهود بين الأفراد والجماعات كما قال تعالى : (<< أوفوا بالعقود ــ وبعهد الله أوفوا ــ وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها ــ ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوّة أنكاثا تتخذون أيمانكم دخلا بينكم أن تكون أمّة هي أربى من أمّة >>) وبغير هذا من وُجوه التزام الحق ونُصرته .

        ومن طبيعة بثّ الخير بين النّاس بنشر الهداية والإحسان دون تمييز بين الأجناس والألوان كما قال تعالى : (<< وافعلوا الخير لعلّكم تُفلحون ــ وأحسنوا إنّ الله يُحبّ المحسنين ــ لا ينهاكم الله عن الذين لم يُقاتلوكم في الدّين ولم يُخرجوكم من دياركم أن تبرّوهم وتُقسطوا إليهم إنّ الله يحبّ المُقسطين >>) , ومن طبيعة الدّعوة إلى القوّة والتّنويه بها وبناء الحياة عليها لكن في نطاق العدل والرّحمة ولدفاع المُعتدين كما قال تعالى : (<< وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوّة ــ وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للنّاس ــ وقبلها ــ وأنزلنا الكتاب والميزان ليقوم النّاس بالقسط ــ فقوّة الحديد لحفظ الكتاب والميزان وحمل النّاس عليهما ــ فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتّقوا الله واعلموا أنّ الله مع المُتّقين ــ وإذا أصابهم البغي هم ينتصرون , وجزاء سيّئة سيّئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنّه لا يُحبّ الظّالمين ــ الآيات >>) .

        ومن طبيعته الدّعوة إلى الجمال والتّحبيب فيه في جميع مظاهر الحياة لكن في نطاق الفضيلة والعفاف كما قال تعالى (<< لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ــ وصوّركم فأحسن صُوركم ــ أحسن كلّ شيء خلقه ثمّ هدى ــ إنّا زيّنّا السّماء الدّنيا بزينة الكواكب ــ حتّى إذا أخذت الأرض زُخرفها وازّينت ــ فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ــ من كلّ زوج بهيج ــ قل من حرّم زينة الله التي أخرج لعباده والطّيبات من الرّزق ــ اليوم أحلّ لكم الطّيبات ــ قُل للمؤمنين يغضّوا من أبصارهم ويحفظوا فُروجهم ذلك أزكى لهم إنّ الله خبير بما يصنعون >>)

        ومن طبيعة المُلك البشري ــ وإن رُوعِيَت في أوضاعه هذه الأصول الأربعة ــ أنّه لا يُقيم ميزان العدل بين أبناء المملكة وغيرهم فتراه يكيل لهؤلاء بمكيال ولهؤلاء بمكيال , ولا يرعى من العهود ــ في الغالب ــ إلاّ ما لا يُعارض مصلحته أو تُلزمه بمُراعاته قوّة خصمه , كما أنّه يكاد يقصر برّه وإحسانه على أبناء جلدته ومن كانوا من جنسه ولونه كما أنّه يبني أمره على القوّة المُطلقة فتندفع مع رغباته إلى أقصى ما يُمكنها أن تصل إليه فيكون البغي والتّسلّط والعدوان , كما أنّه تستهويه زينة الحياة الدّنيا وزخارفها فتمتدّ يده إليها حيثما وجدها فتتنازعها الأيدي بالقوّة والحيلة وتذهب في أفانينها الشّهوات بالنّاس إلى النّقص والرّذيلة .

        ثمّ إنّ من طبيعة المُلك من حيث أنّه مُلك ــ سواء أكان بشريا أم نبويّا ــ مظاهر الأبّهة والجمال والقوّة والفخامة , لما جُبل عليه الخلق من اعتبار المظاهر والتّأثر بها , وهذا إذا كان في الحقّ فهو محمود مطلوب , وإذا كان للباطل والبغي والتّعظيم النّفسي فمذموم متروك , ومن الأوّل أمر النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم عمّه العبّاس رضي الله عنه أن يحبس أبا سُفيان عند خطم الجبل حتّى تمرّ عليه كتائب المُسلمين وذلك لإدخال الرّعب على قلبه بما يرى من النّظام والقوّة , فحبسه العبّاس فجعلت الكتائب تمرّ به فيسأل العبّاس عن كلّ كتيبة فإذا أخبره قال مالي ولبني فلان حتّى مرّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في كتيبته الخضراء وفيها المُهاجرون والأنصار لا يُرى منهم إلاّ الحدق من الحديد فقال مَن هؤلاء ؟ فقال العبّاس : هذا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في المهاجرين والأنصار , قال أبوا سُفيان : ما لأحد بهؤلاء قِبلٌ ولا طاقة , لقد أصبح مُلك ابن أخيك عظيما , قال العبّاس فقلت له : إنّها النّبوّة , فقال : فنعم إذن , قصد أبو سُفيان عظمة الملك القاهر التي كان يعرفها من الأكاسرة وأمثالهم فنفى ذلك العبّاس وردّه إلى النّبوّة التي هي أصل تلك القوّة وذلك الملك النّبوي المُستند إلى الوحي الإلهي ولم يُرد نفي المُلك جُملة , ومنه ما كان من مُعاوية بالشّام : لمّا قدم عليه عُمر وجدّه في أبّهة من الجند والعدّة فاستنكر ذلك وقال له أكسرويّة يا مُعاوية ؟ فاعتذر مُعاوية بأنّهم في ثغر تجاه العدوّ وأنّهم في حاجة إلى مُباهاة العدوّ بزينة الحرب والجهاد فسكت عُمر وأقرّه , فذلك المظهر من مظاهر طبيعة الملك من حيث هو ملك وإنّما أنكره عمر لمّا خاف فيه من تعظّم واستعلاء وإعجاب , فلمّا كان للحق والمصلحة أقرّه .

        ومن أقوى الأدلّة على أنّ تلك المظاهر إذا كانت للحق والمصلحة فهي محمودة مطلوبة ــ ما قصّه الله علينا في هذه الآيات عن مُلك سُليمان نبيّ الله عليه الصّلاة والسّلام , نعم في مُسند أحمد أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم خُيّر من أن يكون نبيّا ملكا أو يكون نبيّا عبدا فاختار أن يكون نبيّا عبدا , وكان ذلك تواضعا منه , ولا ينفي هذا أنّه صلّى الله عليه وسلّم كما كان مُبلّغا عن الله تبارك وتعالى كان قائما على الحُكم والتّنفيذ وإدارة الشّؤون العامّة وتنظيم المُجتمع ممّا يُسمّى مُلكا نبويّا مُستندا إلى الوحي الإلهي ــ لأنّ التّخيير راجع إلى حالته الشّخصيّة الكريمة فخُيّر بين أن يكون لشخصه من مظاهر المُلك مثل ما كان لسُليمان أو لا تكون له تلك المظاهر , فاختار أن لا تكون وأن يكون مظهره مظهرا عاديا مثل مظهر العبد العادي , كما أنّ سُليمان صلّى الله عليه وسلّم الذي كان ملكا نبيّا لم ينف ذلك عنه العبوديّة , وإنّما ينفي عنه مظهرها العادي .

        فهما حالتان للقائمين على الملك جائزتان , كان على إحداهما سُليمان وعلى الأخرى محمّد عليهما الصّلاة والسّلام , وحالة أفضل النّبيّين أفضل الحالتين , وقد اختار عُمر رضي الله عنه الفضلى وأقرّ مُعاوية على الفاضلة الأخرى .

        ولمّا كان محمّد صلّى الله عليه وسلّم جاء بملك النّبوّة كان القرآن العظيم جامعا للأصول التي ينبني عليها ذلك الملك وجاء فيه مثل هذه الآيات التي نكتب عليها صورة من صور مُلك النّبوّة ومظهرا صادقا من مظاهره فيما قصّت علينا من ملك سُليمان عليه السّلام وهي ثلاثون آية من الآية الخامسة عشرة من سورة النّمل إلى الآية الرّابعة والأربعين منها .

الآية الأولى وهي : 15

الألفاظ والتّراكيب :

        علما , نوعا عظيما ممتازا من العلم جمعا به بين المُلك والنّبوّة , وقاما بأمر الحكم والهداية , وقالا : قولهما متسبّب وناشئ عن العلم لكنّه لو قيل فقالا بالفاء لما أفاد أنّ غير القول تسبّب منهما عن العلم ولمّا عطف بالواو دلّ على أنّ هنالك أعمالا كثيرة عظيمة كانت منهما في طاعة الله وشُكره نشأت عن العلم وعليها عطف قولهما هذا , فضّلنا : أعطانا ما فُقنا به غيرنا , على كثير : فهنالك كثير لم يفضّلا عليه ممّن ساواهما أو فاقهما , من عباده المؤمنين : ففضّلا بين أهل الفضل فكانا من أفضل الفاضلين وذلك بما أعطيا من النّبوّة ومُلكها .

المعنى :

        يُخبرنا الله تعالى عمّا أعطى لهذين النّبيَين الكريمين من هذا الخير العظيم , وعمّا كان منهما من الشّكر له , والمعرفة بعظيم قدر عطائه , وإظهار السّرور به مع الاعتراف لغيرهما بما كان من مثله أو نحوه ومن إعلانهما ما كان لله عليهما من نعمة التّفضيل العظيمة بحمده والثّناء عليه .

تنويه وتأصيل :

        قد ابتُدئ الحديث عن هذا الملك العظيم بذكر العلم وقدّمت النّعمة به على سائر النّعم تنويها بشأن العلم وتنبيها على أنّه هو الأصل الذي تنبني عليه سعادة الدّنيا والأخرى , وأنّه هو الأساس لكلّ أمر من أمور الدّين والدّنيا , وأنّ الممالك إنّما تُبني عليه وتُشاد , وأنّ الملك إنّما يُنظم به ويُساس وأنّ كلّ ما لم يُبن عليه فهو على شفا جُرُف هار , وأنّه هو سياج المملكة ودرعها وهو سلاحها الحقيقي وبه دفاعها وأنّ كلّ مملكة لم تحم به فهي عُرضة للانقراض والانقضاض .

 

إحماض :

        قال أبو الطّيّب المُتنبّي :

أعلى الممالك ما يُبنى على الأسل   ***   والطّعن عند مُحبّيهنّ كالقبل

        نعم إنّ مُحبّي الممالك الصّادقين في محبّتها والذين تصلح لهم ويصلحون لها هم الذين يستعذبون في سبيلها الموت ويكون الطّعن عندهم مثل القبل على ثغور الحسان فأمّا الممالك التي تُبنى على السّيف فبالسّيف تُهدم , وما يُشاد على القوّة فبالقوّة يُؤخذ وإنّما أعلى الممالك وأثبتها ما بُنِي على العلم , وحُمي بالسّيف , وإنّما يبلغ السّيف وطره ويُؤثر أثره إذا كان العلم من ورائه . ولكنّ أبا الطّيّب شاعر الرّجولة والبطولة شاعر المعارك والمعامع ــ لا يرى أمامه إلاّ الحرب , وآلات الطّعن والضّرب فلا يُمكن أن يقول ــ وقد غمرته لذة الانتصار واستولت نشوة الغلب والظّفر على لُبّه وخياله ــ إلاّ ما قال .

فقه وأدب :

        يجوز لمن أنعم الله عليه بنعمة وفضّله بفضيلة أن يفرح بتلك النّعمة ويُظهر فرحه بها في معرض حمد الله عليها , من حيث أنّها كرامة من الله لا من حيث أنّها مزيّة من مزاياه فاق بها سواه , مثلما فعل هذين النّبيين الكريمين , وكما قال تعالى : (<< قُل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا >>) , وكثيرا ما يكون التفات المرء إلى نفسه حاجبا عن غيره , فيذكر من شأنه ما أفرحه ويسكت عن غيره وفيهم من هو مثله ومن يفوقه , فقد يجرّ هذا إلى عجب بنفسه وغمط لحقّ من عداه , فلهذا كان من أدب مقام الفرح بنعمة الله وحمده عليها ذكر نعمته العامّة عليه وعلى غيره , والإشارة إلى من فُضّلوا عليه , فيكبح من نفسه بتذكيرها بقصورها , ويُرضي الله باعترافه لذي الفضل بفضله , وحكمة الله وعدله , وبوُقوفه كواحد ممّن أنعم عليهم من عباده .

إرشاد وإشادة :

        أذكار الأنبياء صلّى الله عليهم وسلّم من حمد وتسبيح وتهليل وغيرها أفضل الأذكار وأجمعها وأسلمها وقد اشتمل الكتاب العزيز على كثير منها فعلى المُسلم الحريص على الخير بها علما وعملا , فقد رأيت ما يحفّ بإظهار الفرح بنعمة الله من مخاطر إذا لم يُنتبه لها , وقد جاء هذا الحمد النّبوي مُحصّلا للقصد سالما من كلّ خطره بعباراته الموزونة الشّاملة , التي لا يصدر مثلها إلاّ منهم لكمال علمهم وأدبهم , عليهم الصّلاة والسّلام .