هل كان الشّيخ التّجاني وهّابيا ؟ ؟ ـ ـ

إرسال إلى صديق طباعة PDF
تقييم المستخدمين: / 0
سيئجيد 

 

حقائق من التّاريخ لا يعلمهنّ كثير من النّاس

بقلم الأستاذ الزّاهري العضو الإداري لجمعيّة العلماء المُسلمين الجزائريين

        أردت أن أطّلع على الكتاب الذي أرسله الأمير عبد الله بن سعود صاحب الحجاز ونجد إلى المولى سُليمان سُلطان المغرب الأقصى وأردت أن أطّلع أيضا على نصّ جواب السّلطان عن هذا الكتاب , فطلبتهما في مظانهما , والتمستهما في كُتب التّاريخ , فلم أظفر بنصّ الكتاب ولا بنصّ الجواب ولكنّي حصلت على ما أذكر لك خُلاصته فيما يلي :

        في سنة 1226 ه أرسل المولى سُليمان صاحب المغرب الأقصى نجله الأمير عبد الله بن سعود صاحب الحجاز ونجد , وكان في معيّة المولى إبراهيم كثير من العلماء والأعيان , فلمّا حجّوا البيت الحرام , وقضوا مناسكهم وزاروا الرّوضة النّبويّة المشرّفة , اجتمعوا بالأمير بن سعود فقابلهم بالحفاوة والبشر , ووجدوه كواحد من النّاس لا يتميّز بزيّ ولا مركوب ولا ملبوس , وتباحثوا معه فقال لهم :إنّ النّاس يزعمون أنّنا مُخالفون للسّنّة المُحمّديّة , فهل رأيتمونا خالفنا السّنّة في شيء , فقال له القاضي في ذلك العهد : بلغنا أنّكم تقولون بالاستواء الذّاتي , فقال ابن سعود : بل نقول كما قال الإمام مالك رحمه الله : الاستواء معلوم , والكيف مجهول , والسّؤال عنه بدعة , فهل في هذا مُخالفة ؟ قالوا : لا , ونحن أيضا نقول بمثل هذا , ثمّ قال القاضي : وبلغنا أنّكم تقولون بعدم حياة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في قبره , فلمّا سمع ابن سعود ذكر النّبيّ رفع صوته بالصّلاة عليه وقال : إنّما نقول أنّه صلّى الله عليه وسلّ/ حيّ في قبره حياة فوق حياة الشّهداء , وقال القاضي : وبلغنا أنّكم تمنعون زيارته صلّى الله عليه وسلّم وزيارة سائر الأموات , وهي ثابتة في الصّحاح . فقال الأمير ابن سعود : معاذ الله أن نُنكر ما ثبت في شرعنا , وهل منعناكم أنتم من الزّيارة ؟ وإنّما نمنع العامّة الذين يُشركون العبوديّة بالرّبوبيّة , وسبيل الزّائر أن يعتبر بحال الموتى , وأن يدعوا لهم ويستغفر لهم , ويسأل الله تعالى المُنفرد بالمنع والإعطاء بجاه ذلك الميّت إن كان ممّن يليق أن يُستشفع به , هذا قول إمامنا أحمد بن حنبل رضي الله عنه , ثمّ إنّ العلماء المغاربة لم يُشاهدوا من الأمير ابن سعود أدنى شيء يُخالف الشّريعة , وإنّما شاهدوا منه ما وأتباعه غاية الاستقامة , والقيام بشعائر الإسلام  . . .  ونهي عن المُنكر الحرام , وتطهير الحرمين الشّريفين ممّا كان يُرتكب فيهما من القاذورات والآثام جهارا من غير نكير !

        ولمّا رجع الوفد المغربي إلى المغرب الأقصى وقصُّوا على المولى سُليمان ما شاهدوه في الحجاز من الأمن الشّامل والعمل بالقُرآن الكريم والسّنّة النّبويّة في العبادات والمُعاملات أثّر ذلك فيه أحسن تأثير حتّى أنّه ألّف كتابا ( كما قال صاحب الاستقصاء ) في الرّد على << مُتصوّفة وقته >> , حثّ فيه على التّمسّك بالسّنة وترك وعلى ترك البدعة , وشنيع المُبتدعين من << مُتفقّرة زمانه >> وتكلّم عن الزّيارة وعن دعاء غير الله بما يُوافق الوهّابيين أو حنابلة نجد في رأيهم , ولا يُخالفهم , وأورد صاحب الاستقصاء رأي حنابلة نجد في الزّيارة ودُعاء غير الله ثمّ أردفه بتفصيل من عنده في << زيارة الأنبياء >> ثمّ قال ما نصّه : << وأمّا الأولياء فالقول بمنع زيارتهم مع بيان علّتها . . .  هو قول وجيه , تقتضيه قواعد الشّريعة المطهّرة , وهذا القول هو الذي رآه الشّيخ الفقيه الصّوفي أبو العبّاس أحمد التّجاني رحمه الله حتّى نهى أصحابه عن زيارة الأولياء ( راجع الاستقصاء ج 4 ص 146 ) . . >> .

        ومُقتضى عبارة الاستقصاء أنّ الشّيخ رحمه الله لم يقل بمنع زيارة الأولياء من تلقاء نفسه وإنّما كان في هذه المسألة تابعا للوهّابيين . وفي كُتب الطّريقة التّيجانيّة كثير من الحوادث والوقائع التي نهى فيها الشّيخ أصحابه عن زيارة الأولياء , ومع أنّهم قد نفوا أن يكون الشّيخ قد منعهم من الزّيارة أنانيّة واستأثارا , فقد جاء بتأويل كثير, ولكنّه لا يُوافق المنطق والتّأريخ , وزعم زاعم أنّ الشّيخ التّجاني أنّما منع من زّيارة الأولياء خوفا على أتباعه ومُريديه من مُعاصره ومُنافسه القوي الشّيخ الفقيه الصّوفي أبي عبد الله محمّد العربي الدّرقاوي الذي كان يجذب إليه قلوب الذين يستمعون إلى وعظه وإرشاده , وأنا أعتقد أنّ هذا الزذعم غير صحيح فالشّيخ التّجاني ليس في حاجة إلى أن يمسك عليه أتباعه ومُريديه بمثل هذا الأمر فأحبابه لا يُؤثّر فيهم لا الشّيخ الدّرقاوي ولا غير الدّرقاوي , على أنّ أتباع كلّ شيخ طريقة لا يزورون من عند أنفسهم أيّ شيخ طريقة أخرى من غير أن يحثّهم على ذلك أحد من النّاس .

        ولقد كانت المُنافسة بين التّجاني وبين الدّرقاوي مُنافسة شديدة حقّا على أتمّ ما تكون قُوّة وعُنفا , وجرت بينهما ذات يوم في مسجد جامع مُناقشة حادّة وخصا طويل رُبّما ننشره مرّة أخرى , ولكن ذلك كلّه لا يحمل التّجاني على التّملق والتّفلسف والسّخافات , وهو الذي عُرف منه الهمّة التي لا تتعلّق إلاّ بمعالي الأمور .

***

        إنّ الخصومة التي كانت بين هذين الشّخصين كانت في صميمها سياسيّة محضة , وإن كانت تلبس لباس الدّين . وذلك أنّ المولى سُليمان كان يرى في الطّريقة الدّرقاويّة والطّريقة الطيبية وغيرهما أحزابا سياسيّة وتشكّلات مُناهضة تعمل لإسقاط وسحق سُلطانه , ولقلب نظام الحُكم في المغرب الأقصى , وبعبارة أخرى أنّ هذه الطّرق الصّوفيّة في نظره كانت تعمل لفائدة << الأدارسة >> الذين لا يزالون يتطلّعون إلى عرش المغرب الأقصى , ويتوثّبون عليه من حين لآخر , والمولى سُليمان مُحق في رأيه هذا , فالشّيخ الدّرقاوي مثلا كان تآمر مع أهل فاس على خلع المولى سُليمان وعلى مُبايعة المولى إبراهيم بن يزيد , وسجن الشّيخ الدّرقاوي من أجل ذلك , وقد جاء عياله وذراريه إلى السّلطان يتضرّعون إليه أن يُطلق سراح << كاسبهم >> فرفض شفاعتهم ولم يقبلها , وتركه مُمتحنا مسجونا ولبث كذلك حتّى توفّي السّلطان إلى رحمة الله وكم من فتن وثورات قامت في المغرب الأقصى على المولى سُليمان وعلى غيره من السّلاطين , وكانت كلّها مكن المُتشوّفين إلى العرش والطّامعين في المُلك من أشياخ الطّرق وأرباب الزّوايا .

        وقد جرّب المولى سُليمان أن يكون هو نفسه شيخ طريقة صوفيّة ( أو رئيس حزب سياسي ) ليكثر من حوله الأشياخ والأنصار , ولكن ما يتطلّبه العرش من أبّهة وجلال , ومن رسميات وتقاليد حالت بينه وبين ما يُريد , وليس من السّهل أن يُؤسّس المولى سُليمان << طريقة صوفيّة >> يخضد بها شوكة الطّرق الصوفيّة الأخرى , فإنّه إن نصّب عليها قريبا من أقاربه الشّرفاء خاف من هذا القريب نفسه أن يثور عليه , وأن يطلب المُلك لنفسه متى كثر حوله الأتباع والأنصار والمريدون , فلمّا انتقل الشّيخ التّجاني إلى فاس وجد فيه السّلطان ضالّته المنشودة فالشّيخ صوفيّ مشهور , وله أتباع غير قليلين , وهو جزائري الأصل والفصل لا يخاف السّلطان منه أن يدّعي المُلك لنفسه وهو في ديار الغُربة , فاقتبله السّلطان وآواه وأكرم نزله ومثواه , وأعطاه دارا من دوره كان قد أنفق في بنائها وتأثيثها مالا كثيرا , وكانت هذه الحظوة التي حظّها الشّيخ عند السّلطان سببا في انتشار الطّريقة التّجانيّة بين رجال الدّولة والمقرّبين إلى السّلطان من مُوظّفين وغير مُوظّفين وتتابع النّاس يعتنقون هذه الطّريقة << والنّاس على دين مُلوكهم >> كما قيل حتّى كادت تُصبح هي << الطّريقة الرّسميّة >> لدولة المغرب الأقصى ونحن لا نعلم يقينا أنّ المولى سُليمان قد فرض على النّاس فرضا أن يكونوا ( تجانيين ) ولكنّنا نعلم أنّه قد أُعجب بالشّيخ التّجاني ( واعتقده )ونعلم أنّه قد أظهر هذا الإعجاب وهذا الاعتقاد , على أنّنا نعلم أيضا أنّه كان ساخطا على كثير من أشياخ الطّرق الأخرى , ويُحدّثك التّاريخ أنّ الرّجل المغربي قد يكون ذا مال كثير , وقد يبيت بين أهله ناعم البال آمنا سربه , وما هي إلاّ أن يشتدّ الظّلام حتّى ينقض عليه زبانية السّلطان أو زبانية عامل من عمّال السّلطان فلم يَدعُوا له مالا إلاّ نهبوه ولا جارية إلاّ سحبوها ولا عيالا إلاّ شرّدوه ولكنّه إذا كان ( تجانيا ) فهو ( محرّر ) لا يمسّونه بسوء , ولا ينالونه بأدنى أذى , ومن هنا شاع بين العامّة أنّ من اعتنق الطّريقة التّجانيّة ضمنت له الثّروة والغنى ! . ولقد تبارى في مدح الشّيخ التجاني وفي إظهار كراماته وفضائله ومُعجزاته كلّ أولئك الذين يبتغون عند السّلطان ( التّقرب والزّلفى ) وكان يرتاح لذلك ويتقبله قبولا حسنا .

        غير أنّ  الشّيخ التّجاني رحمه الله بعد أن غادر بلاده ( الجزائر ) مُكرها , وبعد أن ترك فيها أشياعه وأنصاره , وبعد أن ضاعت فيها آماله ومطامحه وأمانيه لم يعد يعنيه أن يجتمع عليه النّاس أو أن ينفض من حوله ( الأحباب ) والمُريدون فكان رضي الله عنه لا يُبالي بهذه الحظوة التي حظيها عند السّلطان , كأنّه كان يعلم أنّ ( وراء الأكمة ما وراءها ) .

        ولقد قرأت أنّ هذا الشّيخ نهي أتباعه عن زيارة الأولياء ونهاهم عن ( التّمشيخ ) قائلا : إنّ دعوى المشيخة من سوء الابتداع , وترك هو المشيخة فعلا وأغلق بابه دون أحبابه ومُريديه فيما رواه عنه بعض التّجانيين فظننت انّه قد عرف من السّلطان أنّه إنّما اتّخذه آلة لمُقاومة الطّرق الأخرى , وهذا ما لا يُريده الشّيخ لنفسه , ولا يرضاه لها فترك المشيخة ــ لذلك ــ وكان من أمره ما كان , ولكنّني اليوم أصبحت أعتقد أنّ الشّيخ إنّما ترك المشيخة ونهى عن الزيارة اقتداء بابن عبد الوهّاب , ورُجوعا منه إلى الكتاب والسّنّة .

        كان الشّيخ التّجاني مُُعاصرا للأمير عبد الله ابن سعود الذي استولى على الحجاز , وطرد منه الأتراك العُثمانيين , وبلا شكّ أنّ الشّيخ قد بلغه وقد سمع أنّ الأمير بن سعود هذا قد أحيى السّنّة النّبويّة وعمل بالقرآن وأنذه طهّر الحرمين الشّريفين ممّا كان يُرتكب فيهما من الموبقات والآثام في النّهار المبصر دون نهي ولا نكير فسُرّ بهذه الأخبار , وكان الشّيخ نفسه قد حجّ إلى بيت الله الحرام فلا يبعد أن يكون قد لقي في حجّه بعض علماء نجد الحنابلة فأخذ عنهم آراءهم في ( الزّيارة ) و ( المشيخة ) والشّيخ عندما كان يطلب ( علم القوم ) لم يكن يطلبه لذاته , بل كان يطلب فيه الخير والهدى فلمّا وجد أنّ الخير كلّه في سنّة الرّسول صلّى الله عليه وسلّم وأنّ الهدى هدى الله , ترك المشيخة وعِلمَ القوم وتمسّك بالسّنّة والكتاب .

        وكان الشّيخ قد أرسل بعض أصحابه إلى الحجاز في مُهمّة لا نعلمها , وهي ما تزال إلى هذا اليوم سرّا مكتوما , لأنّ هذا الرّسول قد أفضى إلى عمله ومات في طريقه , ولم يرجع إلى شيخه , ولكن من يدري ؟ فلعلّ هذه المُهمّة كانت كتابا أرسل به الشّيخ إلى الأمير بن سعود ليتّفق معه على نشر الكتاب والسّنّة , وعلى الدّعوة إليهما في هذه الدّيار , وبين الأمير بن سعود وبين الشّيخ التّجاني رابطة قويّة أخرى تربط ما بينهما فكلاهما ناقم ثائر على الأتراك , أمّا ابن سعود فأمره مع التّرك معلوم وأمّا التّجاني فقد كان ناقما على أتراك الجزائر , وحاول غير مرّة أن يثور عليهم وأن يردعهم بحدّ السّنان , وعزم ذات يوم على الثّورة وأعدّ لها عُدّتها وسعى لها سعيها , والتقى في جمع من أنصاره حوالي مدينة مُعسكر مع جنود الأتراك , ولكن ثورته هذه كانت فاشلة , وانسحب من الميدان قبل الشّروع في القتال , فكان ذلك سببا في حقن كثير من دماء المُسلمين , ثمّ اضطرّه الأتراك إلى مُغادرة البلاد , ولكنّ ابنه سيدي محمّد دخل الجزائر بعد وفاة أبيه خائفا يترقّب , وجمع الجموع وأعلن الثّورة على التّرك حوالي مُعسكر أيضا فجرّدوا حملة عليه عسكريّة هزمته وقتلته ومثّلت به تمثيلا شنيعا , ومن هذا تعرف أنّ الشّيخ رحمه الله كان ناقما على الأتراك النّقمة كلّها , وهذا ممّا يجعله يعطف على ابن سعود ويرتضي الدّعوة الوهّابيّة كثورة على الظّلم والفساد وكدعوة إلى الدّين الخالص القيّم الحنيف .

        وبعد فهذه أفكار وآراء ما أريد أن أفرضها فرضا على القارئ الكريم , ولكنّي رأيتها صالحة لتعليل منع الشّيخ التّجاني لأحبابه من زيارة الأولياء ولتعليل تركه المشيخة وقوله عنها أنّها من سوء الابتداع , ولم تقم عندي الشّواهد والبيّنات القاطعة حتّى أجزم بأنّ الشّيخ التّجاني كان << وهّابيا >> بأتمّ معنى الكلمة , غير أنّي لا أتردّد أن أقول ــ بكلّ جزم ويقين ــ أنّ الشّيخ التّجاني هذا كان يُحبّذ الدّعوة الوهّابيّة ويُوافق عليها , وأنّه كان ينظر إليها بعين الغبطة والرّضى .

وهران  محمّد السّعيد الزّاهري ( الصّراط السّوي العدد السّابع )